فصل: (فَصْلٌ): الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حُكْمُ الْخُلْعِ:

وَأَمَّا حُكْمُ الْخُلْعِ فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: يَتَعَلَّقُ بِالْخُلْعِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ كُلَّ طَلَاقٍ بَائِنٍ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْخُلْعَ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ كُلَّ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَنَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْخُلْعَ؛ فَالْخُلْعُ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ بِغَيْرِ بَدَلٍ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ بِبَدَلٍ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ بَدَلٍ بِأَنْ قَالَ: خَالَعْتكِ، وَنَوَى الطَّلَاقَ فَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَ بِبَدَلٍ فَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ هُوَ الْمَهْرُ بِأَنْ خَلَعَهَا عَلَى الْمَهْرِ فَحُكْمُهُ أَنَّ الْمَهْرَ إنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْمَهْرُ عَنْ الزَّوْجِ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ النَّفَقَةُ الْمَاضِيَةُ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّهُ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مَالًا آخَرَ سِوَى الْمَهْرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سُقُوطِ كُلِّ حُكْمٍ، وَجَبَ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ الْخُلْعِ مِنْ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ، وَوُجُوبِ الْبَدَلِ حَتَّى لَوْ خَلَعَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا آخَرَ فَلَهُ ذَلِكَ ثُمَّ إنْ كَانَ لَمْ يُعْطِهَا الْمَهْرَ بَرِئَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا بَارَأَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ مِثْلُ الْخُلْعِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمُبَارَأَةِ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ فِي الْخُلْعِ إنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ إلَّا مَا سَمَّيَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَسْقُطُ فِي الْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ جَمِيعًا إلَّا مَا سَمَّيَا حَتَّى إنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ-، وَمَهْرُهَا أَلْفِ دِرْهَمٍ- فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ فَإِنَّهَا لَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَهُ عَلَيْهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، وَلَهُ عَلَيْهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَيَصِيرُ قَدْرُ الْمِائَةِ قِصَاصًا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِكُلِّ الْمَهْرِ إلَّا قَدْرَ الْمِائَةِ فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِتِسْعِمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ مَقْبُوضًا فَلَهُ عَلَيْهَا الْمِائَةُ لَا غَيْرَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ بَعْدَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ يَرْجِعُ إلَى الزَّوْجِ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمُبَارَأَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هاهنا ثَلَاثَ مَسَائِلَ: الْخُلْعَ، وَالْمُبَارَأَةَ وَالْمُبَارَأَةَ وَالطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ الَّتِي وَجَبَتْ لَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ.
وَأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْخُلْعِ، وَالْمُبَارَأَةِ، وَاتَّفَقَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْمُبَارَأَةِ، وَاخْتَلَفَ جَوَابُهُمَا فِي الْخُلْعِ، وَاتَّفَقَ جَوَابُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فِي الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَ فِي الْمُبَارَأَةِ فَأَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُبَارَأَةِ، وَمَعَ مُحَمَّدٍ فِي الْخُلْعِ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ بِعِوَضٍ فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ لَا يَسْقُطُ مِنْ غَيْرِ إسْقَاطِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إلَّا إسْقَاطُ مَا سَمَّيَا، فَلَا يَسْقُطُ مَا لَمْ تَجُزْ بِهِ التَّسْمِيَةُ، وَلِهَذَا لَمْ يَسْقُطْ بِهِ سَائِرُ الدُّيُونِ الَّتِي لَمْ تَجِبْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ.
وَكَذَا لَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخُلْعِ، وَالْمُبَارَأَةِ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ صَرِيحٌ فِي إيجَابِ الْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهَا إثْبَاتُ الْبَرَاءَةِ نَصًّا فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْبَرَاءَةِ مُطْلَقًا فَيَظْهَرُ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ،.
فَأَمَّا الْخُلْعُ فَلَيْسَ نَصًّا فِي إيجَابِ الْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْبَرَاءَةِ، وَإِنَّمَا تُثْبِتُ الْبَرَاءَةُ مُقْتَضَاهُ، وَالثَّابِتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَثَبَتَتْ الْبَرَاءَةُ بِقَدْرِ مَا وَقَعَتْ التَّسْمِيَةُ لَا غَيْرُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ فِي مَعْنَى الْمُبَارَأَةِ؛ لِأَنَّ الْمُبَارَأَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ فَكَانَ إسْقَاطًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الْحُقُوقَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْعَقْدِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ كَالْمُتَخَاصَمِينَ فِي الدُّيُونِ إذَا اصْطَلَحَا عَلَى مَالٍ سَقَطَ بِالصُّلْحِ جَمِيعُ مَا تَنَازَعَا كَذَا بِالْمُبَارَأَةِ،، وَالْخُلْعُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْخَلْعِ، وَهُوَ النَّزْعُ، وَالنَّزْعُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ فَمَعْنَى قَوْلِنَا خَلَعَهَا أَيْ: أَخْرَجَهَا مِنْ النِّكَاحِ وَذَلِكَ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ سَائِرِ الْأَحْكَامِ بِالنِّكَاحِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِسُقُوطِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ مَعْنَى الْبَرَاءَةِ فَكَانَ الْخُلْعُ فِي مَعْنَى الْبَرَاءَةِ.
، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ.
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا إسْقَاطُ غَيْرِ الْمُسَمَّى فَنَقُولُ: إنْ لَمْ يُوجَدْ نَصًّا فَقَدْ وُجِدَ دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ قَصْدَهُمَا مِنْ الْخُلْعِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَإِزَالَةُ الْخُلْفِ بَيْنَهُمَا، وَالْمُنَازَعَةُ، وَالْخُلْفُ إنَّمَا وَقَعَا فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَلَا تَنْدَفِعُ الْمُنَازَعَةُ، وَالْخُلْفُ إلَّا بِإِسْقَاطِ حُقُوقِهِ فَكَانَ ذَلِكَ تَسْمِيَةً مِنْهَا لِسَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ دَلَالَةً بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالنِّكَاحِ، وَلَمْ تَقَعْ الْمُنَازَعَةُ فِيهَا، وَلَا فِي سَبَبِهَا، فَلَا يَنْصَرِفُ الْإِسْقَاطُ إلَيْهَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى إسْقَاطِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ لَا نَصًّا، وَلَا دَلَالَةً.
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ فَلِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ الْخُلْعِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ إسْقَاطُهَا بِالْخُلْعِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ الْخُلْعِ بِفَرْضِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي فَكَانَ الْخُلْعُ إسْقَاطًا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَصَحَّ.
وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ صَحَّ، وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ، وَلَوْ أَبْرَأَتْ الزَّوْجَ عَنْ النَّفَقَةِ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ، وَتَجِبُ النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي النِّكَاحِ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ يَوْمًا فَيَوْمًا فَكَانَ الْإِبْرَاءُ عَنْهَا إبْرَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ فَلَمْ يَصِحَّ،.
فَأَمَّا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ الْخُلْعِ فَكَانَ الْخُلْعُ عَلَى النَّفَقَةِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِهَا، وَلَا يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى السُّكْنَى، وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}، فَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ إسْقَاطَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ:

وَأَمَّا الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ فَهُوَ فِي أَحْكَامِهِ كَالْخُلْعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ طَلَاقٌ بِعِوَضٍ فَيُعْتَبَرُ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْآخَرِ إلَّا أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ الْعِوَضَ إذَا أُبْطِلَ فِي الْخُلْعِ بِأَنْ وَقَعَ الْخُلْعُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ يَبْقَى الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَفِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ إذَا أُبْطِلَ الْعِوَضُ بِأَنْ سَمَّيَا مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَالطَّلَاقُ يَكُونُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ كِنَايَةٌ، وَالْكِنَايَاتُ مُبَيِّنَاتٌ عِنْدَنَا،.
فَأَمَّا الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ فَصَرِيحٌ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِتَسْمِيَةِ الْعِوَضِ إذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ، وَعَلَيْهَا أَلْفٌ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ حَرْفُ إلْصَاقٍ فَيَقْتَضِي إلْصَاقَ الْبَدَلِ بِالْمُبْدَلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ عَلَى كَلِمَةُ شَرْطٍ يُقَالُ: زُرْتُك عَلَى أَنْ تَزُورَنِي أَيْ: بِشَرْطِ أَنْ تَزُورَنِي.
وَكَذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ كَانَ دُخُولُ الدَّارِ شَرْطًا كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَهِيَ كَلِمَةُ إلْزَامٍ أَيْضًا فَكَانَ هَذَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ أَنْ تُعْطِيَهُ الْأَلْفَ عَقِيبَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَيَلْزَمُهَا الْأَلْفُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِقَبُولِهَا، وَتَجِبُ عَلَيْهَا الْأَلْفُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ طَلُقَتْ الْمَرْأَةُ الرَّجْعِيَّةُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا مِنْ الْأَلْفِ سَوَاءٌ قَبِلَتْ أَوْ لَمْ تَقْبَلْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ إذَا قَبِلَتْ طَلُقَتْ بَائِنَةً، وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي، وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْبَدَلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُ يَعْتِقُ سَوَاءٌ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا إذَا قَبِلَ يُعْتَقُ، وَعَلَيْهِ الْأَلْفُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنْ هَذِهِ الْوَاوَ وَاوُ حَالٍ فَيَقْتَضِي أَنَّ وُجُوبَ الْأَلْفِ حَالَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْدَالِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: احْمِلْ هَذَا الشَّيْءَ إلَى مَكَانِ كَذَا، وَلَك دِرْهَمٌ فَحَمَلَ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: احْمِلْ بِدِرْهَمٍ،، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ أَعْنِي: قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَقَوْلَهُ: وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرٌ، فَلَا يُجْعَلُ الثَّانِي مُتَّصِلًا بِالْأَوَّلِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ فِيمَا كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِعِوَضٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ احْمِلْ هَذَا إلَى بَيْتِي، وَلَكَ أَلْفٌ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ وُجُودُهُمَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَا يُجْعَلُ الثَّانِي مُتَّصِلًا بِالْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا الْوَاوُ وَاوُ حَالٍ فَمَمْنُوعٌ بَلْ وَاوُ عَطْفٍ فِي الْإِخْبَارِ مَعْنَاهُ أُخْبِرُكِ أَنَّك طَالِقٌ، وَأُخْبِرُكِ أَنَّ عَلَيْكِ أَلْفُ دِرْهَمٍ.
وَلَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ بِأَلْفٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا إشْكَالَ فِيهِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ يَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَقَعُ ثَلَاثَةٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَحَرْفَ الْبَاءِ سَوَاءٌ يُقَالُ بِعْت عَنْك بِأَلْفٍ، وَبِعْت مِنْك عَلَى أَلْفٍ، وَيُفْهَمُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَوْنُ الْأَلْفِ بَدَلًا.
وَكَذَا قَوْلُ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ احْمِلْ هَذَا الشَّيْءَ إلَى بَيْتِي عَلَى دِرْهَمٍ وَقَوْلُهُ: بِدِرْهَمٍ سَوَاءٌ حَتَّى يُسْتَحَقُّ الْبَدَلُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ أَجْزَاءَ الْبَدَلِ تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُبْدَلِ إذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا فِي نَفْسِهِ فَتَنْقَسِمُ الْأَلْفُ عَلَى الثَّلَاثِ فَيَقَعُ وَاحِدَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ كَمَا لَوْ ذُكِرَتْ بِحَرْفِ الْبَاءِ فَكَانَتْ بَائِنَةً؛ لِأَنَّهَا طَلَاقٌ بِعِوَضٍ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى كَلِمَةُ شَرْطٍ فَكَانَ وُجُودُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْأَلْفِ فَكَانَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ بَعْضَ الشَّرْطِ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِوُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ فَلَمَّا لَمْ يُطَلِّقْهَا ثَلَاثًا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأَلْفِ بِخِلَافِ حَرْفِ الْبَاءِ فَإِنَّهُ حَرْفُ مُبَادَلَةٍ فَيَقْتَضِي انْقِسَامَ الْبَدَلِ عَلَى الْمُبْدَلِ فَتَنْقَسِمُ الْأَلْفُ عَلَى التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فَكَانَ بِمُقَابِلَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَلَا يُشْكِلُ هَذَا الْقَدْرُ بِمَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَرْضَ بِالْبَيْنُونَةِ إلَّا بِكُلِّ الْأَلْفِ، فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ بِبَعْضِهَا، فَإِذَا أَمَرَتْهُ بِالطَّلَاقِ فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَدْ سَأَلَتْ الزَّوْجَ أَنْ يُبِينَهَا بِأَلْفٍ وَقَدْ أَبَانَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ زَادَهَا خَيْرًا، وَالْإِشْكَالُ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ الْإِبَانَةَ الْغَلِيظَةَ بِأَلْفٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا بَلْ أَتَى بِالْخَفِيفَةِ، وَلَعَلَّ لَهَا غَرَضًا فِي الْغَلِيظَةِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ غَرَضَهَا فِي اسْتِيفَاءِ مَا لِهَا مَعَ حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ الَّتِي وَضَعَ لَهَا الطَّلَاقُ أَشَدُّ.
(وَأَمَّا) قَوْلُهُمَا إنَّ كَلِمَةَ عَلَى تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْدَالِ فَنَعَمْ لَكِنْ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَلَا تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَفِي الْبَيْعِ، وَنَحْوِهِ ضَرُورَةٌ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ لِمَا بَيَّنَّا، وَاعْتِبَارُ الْبَدَلِ يُوجِبُ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي الْوُجُوبِ، فَلَا يَجِبُ مَعَ الشَّكِّ وَلَوْ قَالَتْ امْرَأَتَانِ لَهُ طَلِّقْنَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا عَلَيْهِمَا بِالْأَلْفِ، وَهَذَا لَا يُشْكِلُ، وَلَوْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ فِي طَلَاقِ الْأُخْرَى فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِلْمَرْأَةِ غَرَضٌ فِي اجْتِمَاعِ تَطْلِيقَاتِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى لِلتَّحْرِيمِ لِثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ الْغَلِيظَةِ بِهَا فَاعْتُبِرَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٍ ثَلَاثًا وَقَعَ الثَّلَاثُ مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ؛ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِأَلْفٍ، وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الثَّلَاثَ لَا تَصْلُحُ جَوَابًا لِلْوَاحِدَةِ فَإِذَا قَالَ ثَلَاثًا فَقَدْ عَدَلَ عَمَّا سَأَلَتْهُ فَصَارَ مُبْتَدِئًا بِالطَّلَاقِ فَتَقَعُ الثَّلَاثُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ فِي الثَّلَاثِ مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تُوجَدُ فِي الثَّلَاثِ فَقَدْ أَتَى بِمَا سَأَلَتْهُ، وَزِيَادَةٍ فَيَلْزَمُهَا الْأَلْفُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَوَاحِدَةً، وَوَاحِدَةً، وَلَوْ طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وُقِفَ عَلَى قَبُولِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ قَبِلَتْ جَازَ، وَإِلَّا بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَمَّا سَأَلَتْهُ فَصَارَ مُبْتَدِئًا طَلَاقًا بِعِوَضٍ فَيَقِفُ عَلَى قَبُولِهَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِأَلْفٍ كَمَا سَأَلَتْ، وَاثْنَتَانِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَحَكَى الْجَصَّاصُ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ قَالَ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ الثَّلَاثَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَالِاثْنَتَانِ تَقِفَانِ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ فِي مُقَابَلَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفًا فَإِذَا أَوْقَعَهَا بِثُلُثِ الْأَلْفِ فَقَدْ زَادَهَا خَيْرًا، وَابْتَدَأَ تَطْلِيقَتَيْنِ بِثُلُثَيْ الْأَلْفِ فَوَقَفَ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(فَصْلٌ): الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَمِنْهَا أَنْ لَا يَلْحَقَهُ اسْتِثْنَاءٌ أَصْلًا، وَرَأْسًا سَوَاءٌ كَانَ وَضْعِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ الِاسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: اسْتِثْنَاءٌ وَضْعِيٌّ، وَاسْتِثْنَاءٌ عُرْفِيٌّ أَمَّا الْوَضْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ كَلِمَةُ إلَّا، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا نَحْوُ سِوَى، وَغَيْرَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعُرْفِيُّ فَهُوَ تَعْلِيقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ فِي الْوَضْعِ لِانْعِدَامِ كَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ الْمَوْجُودُ كَلِمَةُ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُمْ تَعَارَفُوا إطْلَاقَ اسْمِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ} أَيْ: لَا يَقُولُونَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ مُنَاسَبَةٌ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ الْمَنْعُ، وَالصَّرْفُ دُونَ الْحَقِيقَةِ فَأُطْلِقَ اسْمُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالَ الِاسْتِثْنَاءُ نَوْعَانِ اسْتِثْنَاءُ تَحْصِيلٍ، وَاسْتِثْنَاءُ تَعْطِيلٍ فَسُمِّيَ الْأَوَّلُ اسْتِثْنَاءَ تَحْصِيلٍ؛ لِأَنَّهُ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا، وَالثَّانِي تَعْطِيلًا لِمَا أَنَّهُ يَتَعَطَّلُ الْكَلَامُ بِهِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ هِيَ الْمُخْتَارَةُ دُونَ قَوْلِهِمْ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَثْنَى إمَّا أَنْ يَدْخُلَ بَعْدَ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَدْخُلَ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِخْرَاجُ، وَإِنْ دَخَلَ يَتَنَاقَضُ الْكَلَامُ؛ لِأَنَّ نَصَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يُثْبِتُ، وَنَصُّ الِاسْتِثْنَاءِ يَنْفِي، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ مُثْبَتًا، وَمَنْفِيًّا، وَلِهَذَا فُهِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} مَا ذَكَرْنَا حَتَّى يَصِيرَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ، وَخَمْسِينَ عَامًا لَا مَعْنَى الْإِخْرَاجِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ إذَا كَانَ مِمَّا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَيُعْلَمُ وُجُودُهُ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ لَا يَنْزِلُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْلِيقِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) شَرْطُ صِحَّتِهِ فَلِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ شَرَائِطُ: بَعْضُهَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا أَمَّا الَّذِي يَعُمُّهُمَا جَمِيعًا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَوْصُولًا بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْكَلَامِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ حَتَّى لَوْ حَصَلَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِسُكُوتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَا يَصِحُّ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَصِحُّ مُتَّصِلًا، وَمُنْفَصِلًا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى»، وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ لَمَا قَالَ.
وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاء فِي مَعْنَى التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيَانٌ ثُمَّ التَّخْصِيصُ يَصِحُّ مُقَارِنًا، وَمُتَرَاخِيًا فَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَمُنْفَصِلًا، وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ كَلَامٍ تَامٍّ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرًا أَنْ لَا يَقِفَ حُكْمُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْوَقْفُ عِنْدَ الْوَصْلِ لِضَرُورَةٍ، وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْمَوْصُولِ، فَلَا يَقِفُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقِفْ عَلَى الشَّرْطِ الْمُنْقَطِعِ فَكَذَا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ؛ وَلِأَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوُصُولِ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ لُغَةً؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ لَا يَعُدُّونَهُ اسْتِثْنَاءً بَلْ يَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا تَكَادُ تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إمَامًا فِي اللُّغَةِ كَمَا كَانَ إمَامًا فِي الشَّرِيعَةِ.
وَأَمَّا التَّخْصِيصُ الْمُتَرَاخِي فَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لَيْسَ بِبَيَانٍ بَلْ هُوَ فَسْخٌ، فَلَا يَلْزَمُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَيَانٌ لَكِنَّ إلْحَاقَ الْبَيَانِ بِالْمُجْمَلِ، وَالْعَامِّ الَّذِي يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ مُتَرَاخِيًا مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّهُ كَثِيرُ النَّظِيرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ بِسَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَصْحِيحَ الِاسْتِثْنَاءِ فَيُحْمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اسْتِدْرَاكَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أَيْ: إلَّا أَنْ تَقُولَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَنَسِيَ ذَلِكَ فَتَذَكَّرَهُ بَعْدَ سَنَةٍ فَأُمِرَ بِاسْتِدْرَاكِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيتَ}، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أَمْرًا، وَأَرَادَ فِي قَلْبِهِ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ فَأَظْهَرَ الِاسْتِثْنَاءَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمِثْلُ هَذَا مُعْتَادٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الْفَصْلُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ،.
فَأَمَّا إذَا كَانَ لِضَرُورَةِ التَّنَفُّسِ، فَلَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ فَصْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ سَكْتَةً هَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْفَصْلِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَلَا يُعْتَبَرُ فَصْلًا، وَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الْوَصْلِ لِلضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا كَوْنُ الِاسْتِثْنَاءِ مَسْمُوعًا فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ حَرَّكَ لِسَانَهُ، وَأَتَى بِحُرُوفِ الِاسْتِثْنَاءِ يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا.
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِدُونِهِ وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ.
فَأَمَّا السَّمَاعُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِكَوْنِهِ كَلَامًا فَإِنَّ الْأَصَمَّ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ؛ لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمَنْظُومَةَ، وَإِنْ كَانَتْ كَلَامًا- عِنْدَ الْكَرْخِيِّ، وَعِنْدَنَا- هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى الْكَلَامِ، وَعِبَارَةٌ عَنْهُ لَا نَفْسِ الْكَلَامِ فِي الْغَائِبِ، وَالشَّاهِدِ جَمِيعًا فَلَمْ تُوجَدْ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْحُرُوفَ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الصَّوْتِ فَالْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْأَصْوَاتِ الْمُتَقَطِّعَةِ بِتَقْطِيعٍ خَاصٍّ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الصَّوْتُ لَمْ تُوجَدْ الْحُرُوفُ فَلَمْ يُوجَدْ الْكَلَامُ عِنْدَهُ، وَلَا دَلَالَةُ الْكَلَامِ عِنْدَنَا فَلَمْ يَكُنْ اسْتِثْنَاءً، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْوَضْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى بَعْضَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَا كُلَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَلَا يَكُونُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى بَعْضَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَا كُلَّهُ،؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَجْرِي مَجْرَى التَّخْصِيصِ، وَالتَّخْصِيصُ يَرِدُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعُمُومِ لَا عَلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا.
وَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ نَسْخُ الْحُكْمِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالطَّلَاقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ إنَّمَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ، وَالطَّلَاقُ مِمَّا لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ.
وَكَذَا الْعَتَاقُ.
وَكَذَا الْإِعْتَاقُ.
وَكَذَا الْإِقْرَارُ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَحَّ فِيمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ- وَهُوَ الْوَصِيَّةُ- وَمَعَ هَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ لَيْسَ لِمَكَانِ الرُّجُوعِ بَلْ لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ.
، وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ بَابِ اللُّغَةِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِاسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وُضِعَ فِي الْأَصْلِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَالْغَلَطُ يَجْرِي فِي الْأَقَلِّ لَا فِي الْأَكْثَرِ، وَلَنَا أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْأَقَلِّ، وَالْأَكْثَرِ إلَّا أَنَّهُ قَلَّ اسْتِعْمَالُهُمْ الِاسْتِثْنَاءَ فِي مِثْلِهِ لِقِلَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ لِقِلَّةِ وُقُوعِ الْغَلَطِ فِيهِ.
وَهَذَا لَا يَكُونُ مِنْهُمْ إخْرَاجًا لِلَّفْظِ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً كَمَنْ أَكَلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَكَلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَإِنْ كَانَ يَقِلُّ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، لَكِنْ قِلَّةُ اسْتِعْمَالِهَا لِقِلَّةِ وُجُودِ الْأَكْلِ لَا لِانْعِدَامِ مَعْنَى اللَّفْظِ حَقِيقَةً كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ مَسَائِلُ هَذَا النَّوْعِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً يَقَعُ ثِنْتَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ لِكَوْنِهِ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَالْبَاقِي بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الثَّلَاثِ ثِنْتَانِ إلَّا أَنَّ لِلثِّنْتَيْنِ اسْمَيْنِ: أَحَدَهُمَا ثِنْتَانِ، وَالْآخَرُ ثَلَاثٌ إلَّا وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ: إلَّا اثْنَتَيْنِ يَقَعُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ قَالَ: إلَّا ثَلَاثًا وَقَعَ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ جَازَ اسْتِثْنَاءُ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ، وَبَطَلَ اسْتِثْنَاءُ الثَّالِثَةِ، وَتَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ فَصَحَّ إلَّا أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَلَيْهِ لَجَازَ،.
فَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الثَّالِثَةِ فَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَلَمْ يَصِحَّ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَيَقَعُ وَاحِدَةٌ،، وَلِأَبِي حَنِيفَةً، وَمُحَمَّدٍ أَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ يَقِفُ عَلَى آخِرِهِ فَكَانَ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ إلَّا وَاحِدَةً، وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُلِّ بِحَرْفِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إلَّا ثَلَاثًا.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا ثَلَاثًا يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا كَانَ مَوْصُولًا يَقِفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَى الْكُلِّ فَبَطَلَ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَتَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ كُلِّ جُمْلَةٍ بِحَرْفِ الْجَمْعِ فَكَانَ اسْتِثْنَاءَ الْجُمْلَةِ مِنْ الْجُمْلَةِ، فَلَا يَصِحُّ، وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ إلَّا اثْنَتَيْنِ يَقَعُ ثِنْتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ زُفَرُ يَقَعُ ثَلَاثٌ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ أَيْضًا، وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَمَتَى انْصَرَفَ إلَى مَا يَلِيهِ؛ كَانَ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، فَلَا يَصِحُّ، وَلَهُمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُصَحِّحُ مَا أَمْكَنَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مِمَّا يَلِيهِ لَبَطَلَ، وَلَوْ صُرِفَ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا مِنْ كُلِّ ثِنْتَيْنِ وَاحِدَةً فَبَقِيَ مِنْ كُلِّ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٌ.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَاثْنَتَيْنِ إلَّا ثَلَاثًا إنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الِاسْتِثْنَاءِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ وَقَفَ عَلَى آخِرِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا مِنْ كُلِّ جُمْلَةٍ تَطْلِيقَةً، وَنِصْفًا، وَهَذَا اسْتِثْنَاءُ جَمِيعِ الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ وَاحِدَةٍ، وَنِصْفٍ اسْتِثْنَاءُ ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ ذِكْرٌ لِكُلِّهِ فَكَانَ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، وَزِيَادَةً، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُصْرَفَ اثْنَتَانِ مِنْ الثَّلَاثِ أَوْ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ إلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ تَصَرُّفِهِ، وَإِنْشَاءُ تَصَرُّفٍ آخَرَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فَتَعَذَّرَ تَصْحِيحُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَبَطَلَ، وَالْإِشْكَالُ عَلَى الْقَسَمِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذِكْرَ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ لَا يَكُونُ ذِكْرًا لِلْكُلِّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ هُوَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً، وَنِصْفًا يَقَعُ عَلَيْهَا ثِنْتَانِ، وَلَوْ كَانَ ذِكْرُ بَعْضِ الطَّلَاقِ ذِكْرًا لِكُلِّهِ فِي الِاسْتِثْنَاءَ لَوَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ، وَكَانَ الْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا فَيُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي، وَالْبَاقِي هاهنا تَطْلِيقَةٌ، وَنِصْفٌ، وَنِصْفُ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ فَيَقَعُ ثِنْتَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَصِرْ ذِكْرُ الْبَعْضِ ذِكْرًا لِلْكُلِّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ يَصِرْ مُسْتَثْنِيًا مِنْ كُلِّ جُمْلَةٍ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، وَتَلْغُو وَاحِدَةٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ الْكُلِّ فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ ثِنْتَانِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عِنْدَهُمَا، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إشْكَالٌ عَلَى مَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَرَوَى هِشَامٌ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعًا إلَّا خَمْسًا أَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالصَّرْفِ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى الشُّيُوعِ، وَلَا بِالصَّرْفِ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَلَا يُصْرَفُ الْبَعْضُ عَيْنًا إلَى جُمْلَةٍ، وَالْبَعْضُ إلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى لِمَا قُلْنَا، وَالْإِشْكَالُ عَلَى الْقَسَمِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَقَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ إلَّا اثْنَتَيْنِ أَنَّهُ ثَلَاثٌ-، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ-، وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا، وَالْإِشْكَالُ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا، هَذَا إذَا كَانَ لَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
كَانَ شَيْئًا خِلَافَ جِنْسِهِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَا تَطْلُقُ، وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ الْمُسَمَّى نَحْوُ أَنْ يَقُولَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ لَهُ نِسَاءٌ غَيْرُهُنَّ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَا تُطْلَقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُعْتَبَرُ فِيهِ اللَّفْظُ، وَالْإِشَارَةُ مَعَ التَّسْمِيَةِ مُخْتَلِفَانِ لَفْظًا فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي؛ وَلِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ يَكُونُ مَعْنَاهُ نِسَائِي غَيْرَ هَؤُلَاءِ طَوَالِقُ، وَهَذَا إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ،.
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْأَرْبَعُ مَا دُونَ هَؤُلَاءِ، فَإِذَا كُنَّ أَرْبَعًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَطْلُقْنَ كُلُّهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِثْنَاءُ غَيْرِهِنَّ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَلَا نِسَاءَ لَهُ، وَهُنَاكَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيُطَلَّقْنَ كُلُّهُنَّ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: نِسَائِي إلَّا نِسَائِي طَوَالِقُ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ طُلِّقْنَ كَذَا هَذَا.
وَكَذَا هَذَا فِي الْعَتَاقِ إذَا قَالَ: عَبِيدِي كُلُّهُمْ أَحْرَارٌ إلَّا عَبِيدِي لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَعَتَقُوا جَمِيعًا، وَلَوْ قَالَ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا هَؤُلَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ عَبِيدٌ غَيْرُ هَؤُلَاءِ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْوَصِيَّةِ إذَا قَالَ: أَوْصَيْتَ بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ أَوْ أَوْصَيْتَ لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَمَاتَ، وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَالِهِ.
قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إلَّا تِسْعًا يَقَعُ وَاحِدَةً، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ فَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إلَى جُمْلَةِ الْكَلَامِ لَا إلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَصِحُّ وُقُوعُهُ، وَهُوَ الثَّلَاثُ خَاصَّةً فَيَتْبَعُ اللَّفْظَ لَا الْحُكْمَ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى، وَيَثْبُتُ فِيمَا بَقِيَ قَدْرُ مَا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إلَّا تِسْعًا يَقَعُ وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ: إلَّا ثَمَانِيًا يَقَعُ اثْنَتَانِ، وَإِذَا قَالَ: إلَّا سَبْعًا يَقَعُ ثَلَاثٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَتْبَعُ اللَّفْظَ لَا الْحُكْمَ فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَدَخَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ، وَعَمِلَ فِيهَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يَقَعُ قَدْرُ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَقَعُ الْبَاقِي- وَهُوَ الثَّلَاثُ-؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إلَّا سِتًّا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً يَقَعُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ هِيَ الَّتِي يَصِحُّ وُقُوعُهَا مِمَّا بَقِيَ إذْ لَا يَزِيدُ الطَّلَاقُ عَلَى الثَّلَاثِ.
قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً تَقَعُ وَاحِدَةً، وَالْأَصْلُ فِي مَسَائِلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الِاسْتِثْنَاء أَنَّ لِتَخْرِيجِهَا طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَخِيرِ فَيُجْعَلُ اسْتِثْنَاءً مِمَّا يَلِيهِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْهُ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِمَّا يَلِيهِ هَكَذَا إلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ فَيُسْتَثْنَى ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ فَمَا بَقِيَ مِنْهَا الْوَاقِعُ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً- يَسْتَثْنِي الْوَاحِدَةَ مِنْ الثَّلَاثَةِ- يَبْقَى اثْنَتَانِ يَسْتَثْنِيهِمَا مِنْ الثَّلَاثَةِ فَتَبْقَى وَاحِدَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ يَقَعُ اثْنَتَانِ؛ لِأَنَّك تَسْتَثْنِي الِاثْنَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَتَبْقَى وَاحِدَةٌ تَسْتَثْنِيهَا مِنْ الثَّلَاثَةِ فَيَبْقَى اثْنَتَانِ.
فَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً يَقَعُ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّك تَسْتَثْنِي الْوَاحِدَةَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَيَبْقَى وَاحِدَةٌ تَسْتَثْنِيهَا مِنْ الثَّلَاثِ فَيَبْقَى اثْنَتَانِ تَسْتَثْنِيهِمَا مِنْ الثَّلَاثِ فَيَبْقَى وَاحِدَةٌ هِيَ الْوَاقِعُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إلَّا تِسْعًا إلَّا ثَمَانِيًا إنَّكَ تَسْتَثْنِي ثَمَانِيًا مِنْ تِسْعٍ فَبَقِيَ وَاحِدَةٌ نَسْتَثْنِيهَا مِنْ الْعَشْرِ فَيَبْقَى تِسْعٌ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تِسْعًا فَيَقَعُ ثَلَاثٌ فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إلَّا تِسْعًا إلَّا وَاحِدَةً يَقَعُ ثِنْتَانِ؛ لِأَنَّك إذَا اسْتَثْنَيْت الْوَاحِدَةَ مِنْ التِّسْعِ يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ تَسْتَثْنِيهَا مِنْ الْعَشْرِ فَيَبْقَى اثْنَتَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إلَّا ثَمَانِيًا، وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ هَذَا الْوَجْهِ، وَقِيَاسُهُ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى عَقْدِ الْيَدِ، وَهُوَ أَنْ تَعْقِدَ الْعَدَدَ الْأَوَّلَ بِيَمِينِكَ، وَالثَّانِي بِيَسَارِكَ، وَالثَّالِثَ تَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَمِينِك، وَالرَّابِعَ بِيَسَارِك تَضُمُّهُ إلَى مَا بِيَسَارِك ثُمَّ تَطْرَحُ مَا اجْتَمَعَ فِي يَسَارِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اجْتَمَعَ فِي يَمِينِكَ فَمَا بَقِيَ فِي يَمِينِك فَهُوَ الْوَاقِعُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَسَائِلُ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِثْنَاء، وَهُوَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَنَقُولُ: إذَا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، سَوَاءٌ قَدَّمَ الطَّلَاقَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الذِّكْرِ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَعَلَى هَذَا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ، وَالنَّذْرِ، وَالْيَمِينِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، وَمَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِيَّةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْعَدَمَ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقًا بِأَمْرٍ كَائِنٍ فَيَكُونُ تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَتْ السَّمَاءُ فَوْقَنَا، وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ، وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، وَالسَّلَامِ: {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} وَصَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ حَتَّى لَمْ يَصِرْ بِتَرْكِ الصَّبْرِ مُخْلِفًا فِي الْوَعْدِ.
وَلَوْلَا صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ لَصَارَ مُخْلِفًا فِي الْوَعْدِ بِالصَّبْرِ، وَالْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ لَا يَجُوزُ، وَالنَّبِيُّ مَعْصُومٌ.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أَيْ إلَّا أَنْ تَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ صِيَانَةُ الْخَبَرِ عَنْ الْخُلْفِ فِي الْوَعْدِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِهِ مَعْنًى.
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ، وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ»، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثُنْيَاهُ»؛ وَلِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْلِيقٌ بِمَا لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّهُ شَاءَ وُقُوعَ هَذَا الطَّلَاقِ أَوْ لَمْ يَشَأْ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ وُقُوعَ هَذَا الطَّلَاقِ هَلْ دَخَلَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَمْ يَدْخُلْ؟ فَإِنْ دَخَلَ وَقَعَ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ تَعْلِيقًا بِأَمْرٍ كَائِنٍ؛ وَلِأَنَّ دُخُولَ الْوُقُوعِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ فَقَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَقَعُ الْعَتَاقُ، وَزَعَمَ بِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْمَشِيئَةُ فِي الطَّلَاقِ، وَوُجِدَتْ فِي الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَكْرُوهُ الشَّرْعِ، وَالْعِتْقُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ إرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى تَتَعَلَّقُ بِالْقُرْبِ، وَالطَّاعَاتِ لَا بِالْمَكَانِ، وَالْمَعَاصِي، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ كُلَّ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ مِنْ الْعَبْدِ ثُمَّ الْعَبْدُ قَدْ لَا يَفْعَلُهُ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ، وَبُطْلَانُ مَذْهَبِهِمْ يُعْرَفُ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ ثُمَّ أَنَّهُمْ نَاقَضُوا حَيْثُ قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ فَقَالَ: لَأَصُومَنَّ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ قَالَ: لَأُصَلِّيَنَّ رَكْعَتَيْنِ أَوْ لَأَقْضِيَنَّ دَيْنَ فُلَانٍ فَمَضَى الْغَدُ، وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ خَيْرٍ لَحَنِثَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ خَيْرَاتٌ وَقَدْ شَاءَهَا عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ قَالَ أَنْ لَوْ يَشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمَا قُلْنَا.
وَكَذَا لَوْ قَالَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يَقَعَ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي شَاءَهُ اللَّهُ، تَعَالَى.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى كَقَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيقٌ بِعَدَمِ دُخُولِ الْوُقُوعِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ قَالَ: فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنِ اسْتِثْنَاءً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَ الطَّلَاقِ، وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ- حَرْفٌ- هُوَ حَشْوٌ- فَيَصِيرُ فَاصِلًا بِمَنْزِلَةِ السَّكْتَةِ فَيُمْنَعُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فَيَقَعُ فِي الْحَالِ.
وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَقَعُ الثَّلَاثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَوَاحِدَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمَوْصُولِ يَقِفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: ثَلَاثًا، وَثَلَاثًا كَلَامًا وَاحِدًا فَيَعْمَلُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ سِتًّا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ، وَهُوَ حَرْفُ الْوَاوِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ذَكَرَهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ سِتًّا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَدَدَ الثَّانِيَ وَقَعَ لَغْوًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إذْ لَا مَزِيدَ لِلطَّلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ فَصَارَ فَاصِلًا فَمَنَعَ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا لَوْ سَكَتَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ سِتًّا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْكُلَّ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُمْكِنُ فَصْلُ الْبَعْضِ عَنْ الْبَعْضِ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِي هاهنا لَيْسَ بِلَغْوٍ؛ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ فَلَمْ يَصِرْ فَاصِلًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ بِحَرْفِ الْوَاوِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ قَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ طَالِقٌ وَعَبْدُهُ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى انْصَرَفَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَكَذَا إذَا ذَكَرَ الشَّرْطَ فِي آخِرِ الْجُمْلَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ أَوْ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا.
وَلَوْ قَالَ لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِعَمْرٍو عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ انْصَرَفَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجُمَلِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَنَوْا مَسْأَلَةَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ وَشَهِدَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} مُنْصَرِفٌ إلَى مَا يَلِيهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ.
وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ إذَا دَخَلَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ يَجْعَلُهُمَا كَلَامًا وَاحِدًا كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَعَمْرٌو مَعْنَاهُ جَاءَانِي، وَكَمَا إذَا قَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَعَبْدُهُ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا بِالشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُمْلَةً تَامَّةً لَكِنْ لَمَّا دَخَلَ بَيْنَهُمَا وَاوُ الْعَطْفِ جُعِلَ كَلَامًا وَاحِدًا، وَتَعَلَّقَا جَمِيعًا بِالشَّرْطِ كَذَا هَذَا، وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ نَاقِصًا شَارَكَ الْأَوَّلَ فِي حُكْمِهِ وَجَعَلَ الْكُلَّ كَلَامًا وَاحِدًا بِأَنْ قَالَ: لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، وَفُلَانَةُ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا كَذَا هَذَا، وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى مَا يَلِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ، وَمُتَّصِلٌ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مُفِيدٍ بِنَفْسِهِ مُسْتَقِلٍّ بِذَاتِهِ، فلابد مِنْ رَبْطِهِ بِغَيْرِهِ لِيَصِيرَ مُفِيدًا، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالصَّرْفِ إلَى مَا يَلِيهِ، فَانْصَرَفَ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِدُخُولِ حَرْفِ الْعَطْفِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فَيَجْعَلُهُمَا كَلَامًا وَاحِدًا وَجُمْلَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ كَلَامًا وَاحِدًا وَالْجُمْلَتَانِ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِوَاوِ الْعَطْفِ إذَا كَانَتْ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ نَاقِصَةً بِحَيْثُ لَوْ فُصِلَتْ عَنْ الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى لَا تَكُونُ مُفِيدَةً،.
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ كَامِلَةً بِحَيْثُ لَوْ فُصِلَتْ عَنْ الْأُخْرَى كَانَتْ مُفِيدَةً، فَلَا يُجْعَلَانِ كَلَامًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْجَعْلَ لِلْعَطْفِ الْمُوجِبِ لِلشَّرِكَةِ وَالشَّرِكَةُ ثَابِتَةٌ بِدُونِ حُرُوفِ الْوَاوِ فَكَانَ الْوَصْلُ وَالْإِشْرَاكُ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَعَدَمِهِ سَوَاءً؛ وَلِأَنَّ جَعْلَ الْكَلَامَيْنِ كَلَامًا وَاحِدًا خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ- وَهِيَ أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ نَاقِصَةً إمَّا صُورَةً أَوْ مَعْنًى- كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَعَمْرٌو فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ نَاقِصَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُبْتَدَأٌ لَا خَبَرَ لَهُ فَجُعِلَتْ كَامِلَةً بِالْإِشْرَاكِ بِحَرْفِ الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتَيْهِ: زَيْنَبُ طَالِقٌ، وَعَمْرَةُ لِمَا قُلْنَا، أَوْ تَكُونُ نَاقِصَةً مَعْنًى فِي حَقِّ حُصُولِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَعَبْدُهُ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّ هُنَاكَ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ نَاقِصَةٌ فِي حَقِّ حُصُولِ غَرَضِ الْحَالِفِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ أَنْ يَجْعَلَهُمَا جَمِيعًا جَزَاءً وَاحِدًا لِلشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ يَصْلُحُ جَزَاءً تَامًّا، وَهَذَا الْغَرَضُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِشْرَاكِ وَالْوَصْلِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْجَزَاءِ فَكَانَتْ جُمْلَةً نَاقِصَةً فِي الْمَعْنَى-، وَهُوَ تَحْصِيلُ غَرَضِهِ- فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ نَاقِصٌ فِي أَصْلِ الْإِفَادَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الضَّرُورَةِ لَمْ تُوجَدْ هاهنا فَبَقِيَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مُنْفَرِدَةً بِحُكْمِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً بِحَرْفِ الْوَاوِ كَمَا لَوْ قَالَ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَذَهَبَ عَمْرٌو فَإِنَّ هَذَا عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَلَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْخَبَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا.
وَلَوْ أَدْخَلَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى جُمْلَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَمِينٌ بِأَنْ قَالَ امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَعَبْدِي حُرٌّ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى انْصَرَفَ الِاسْتِثْنَاء إلَى مَا يَلِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَتَطْلُقُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْصَرِفُ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَا الْعَتَاقُ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَامَ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى بِحَرْفِ الْوَاوِ فَيَجْعَلُهُمَا كَلَامًا وَاحِدًا كَمَا فِي التَّنْجِيزِ بِأَنْ يَقُولَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَعَبْدُهُ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ؟، وَحُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْصَرِفَ لِمَا يَلِيهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَانْصِرَافُهُ إلَى غَيْرِهِ لِتَتِمَّ الْجُمْلَةُ النَّاقِصَةُ صُورَةً، وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَهَاهُنَا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ تَامَّةٌ صُورَةً، وَمَعْنًى أَمَّا الصُّورَةُ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ كُلَّ جَزَاءٍ بِشَرْطٍ عَلَى حِدَةٍ عُلِمَ أَنَّ غَرَضَهُ لَيْسَ جَعْلُهُمَا جَمِيعًا جَزَاءً وَاحِدًا؛ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ جَزَاءً تَامًّا صُورَةً، وَمَعْنًى.
قَدَّمَ الِاسْتِثْنَاءَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ الطَّلَاقَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِحَرْفِ الْوَصْلِ، وَهُوَ الْفَاءُ؛ فَيَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ فَتَصِيرُ الْجُمْلَةُ كَلَامًا وَاحِدًا.
وَلَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْتِ طَالِقٌ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ فِي الْقَضَاءِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجَزَاءَ إذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ الشَّرْطِ لابد مِنْ ذِكْرِ حَرْفِ الِاتِّصَالِ- وَهُوَ حَرْفُ الْفَاءِ- لِيَتَّصِلَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَتَّصِلْ فَكَانَ قَوْلُهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَلَمْ يَصِحَّ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ كَمَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ لِعَدَمِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ- وَهُوَ حَرْفُ الْفَاءِ- فَيَبْقَى تَنْجِيزًا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ الْفَاءَ يُضْمَرُ فِي كَلَامِهِ تَصْحِيحًا لِلِاسْتِثْنَاءِ وَالْإِضْمَارُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَائِزٌ قَالَ الشَّاعِرُ مَنْ يَفْعَلْ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ أَيْ: فَاَللَّهُ يَشْكُرُهَا، أَوْ يُجْعَلُ الْكَلَامُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَصْحِيحًا لِلِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْكَلَامِ جَائِزٌ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ.
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ يَصِحَّانِ لِتَصْحِيحِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ لَا يَتَعَلَّقُ، وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ التَّعْلِيقِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ لَمْ يَتَعَلَّقْ، وَلَا يَصْدُقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّعْلِيقَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا يَصْدُقُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرَ كَذَا هَذَا (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذِكْرِ حَرْفِ الْفَاءِ فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ- إذَا كَانَ الْجَزَاءُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الشَّرْطِ فِي الْمِلْكِ- لِيَتَّصِلَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ فَيُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، فلابد مِنْ وَصْلِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ بِحَرْفِ الْوَصْلِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوُقُوعُ هَذَا الطَّلَاقِ مِمَّا لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ رَأْسًا حَتَّى تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى وَصْلِ الْجَزَاءِ بِهِ لِيُوجَدَ عِنْدَ وُجُودِهِ فَكَانَ تَعْطِيلًا فِي عِلْمِنَا، فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ حَرْفِ الْوَصْلِ قَبْلَ هَذَا الشَّرْطِ وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْتِ طَالِقٌ، يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ التَّعْلِيقَ لَا يَصْدُقُ قَضَاءً، وَلَا دِيَانَةً لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، هَذَا كُلُّهُ إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَأَمَّا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنْ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ مَنْ يُوقَفُ عَلَى مَشِيئَتِهِ مِنْ الْعِبَادِ بِأَنْ قَالَ: إنْ شَاءَ زَيْدٌ فَالطَّلَاقُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَتِهِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يُعْلَمُ فِيهِ بِالتَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّعْلِيقِ تَمْلِيكٌ لِمَا نَذْكُرُ فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ كَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا يُوقَفُ عَلَى مَشِيئَتِهِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَاءَ جِبْرِيلُ أَوْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ الْجِنُّ أَوْ الشَّيَاطِينُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مَشِيئَةِ هَؤُلَاءِ كَمَا لَا يُوقَفُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مَشِيئَةِ الْعِبَادِ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَشَاءَ زَيْدٌ فَشَاءَ زَيْدٌ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِشَرْطَيْنِ لَا يُعْلَمُ وُجُودُ أَحَدِهِمَا وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ لَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ زَيْدٌ، وَعُمَرُ فَشَاءَ أَحَدُهُمَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ فَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَقَعُ، وَإِنْ جُعِلَ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ لَا يُشْتَرَطُ وَقَالَ زُفَرُ يُشْتَرَطُ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ الْغَايَتَانِ لَا يَدْخُلَانِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ بَقِيَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ وَقَعَ، وَإِلَّا، فَلَا.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ الْغَايَتَانِ تَدْخُلَانِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْأُولَى تَدْخُلُ لَا الثَّانِيَةُ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَى اثْنَتَيْنِ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا هِيَ اثْنَتَانِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ.
وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَهِيَ اثْنَتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هِيَ ثَلَاثٌ، وَعِنْدَ زُفَرَ هِيَ وَاحِدَةٌ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ كَلِمَةَ مَنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَكَلِمَةَ إلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ؛ يُقَالُ سِرْت مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ أَيْ: الْبَصْرَةُ كَانَتْ ابْتِدَاءَ غَايَةِ الْمَسِيرِ وَالْكُوفَةُ كَانَتْ غَايَةَ الْمَسِيرِ، وَالْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ إذْ قَالَ: بِعْت مِنْك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ فَالْحَائِطَانِ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ هَذَا مِنْهُ إيقَاعَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ لَا الْغَايَةُ، فَيَقَعُ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ لَا الْغَايَةُ.
وَكَذَا إذَا قَالَ: بِعْتُك مَا بَيْنَ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ لَا يَدْخُلُ الْحَائِطَانِ فِي الْبَيْعِ كَذَا هَاهُنَا، وَلِهَذَا لَمْ تَدْخُلْ إحْدَى الْغَايَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَا الْأُخْرَى، وَلَهُمَا أَنَّ مَا جُعِلَ غَايَةً لابد مِنْ وُجُودِهِ إذْ الْمَعْدُومُ لَا يَصْلُحُ غَايَةً، وَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُودِهِ وُقُوعُهُ، وَلِهَذَا دَخَلَتْ الْغَايَةُ الْأُولَى فَكَذَا الثَّانِيَةُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْغَايَةَ هُنَاكَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ وُجُودُهَا بِالْبَيْعِ لِيَكُونَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُودِهَا بِالْبَيْعِ دُخُولُهَا فِيهِ فَلَمْ تَدْخُلْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ بَنَى الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ، وَيُرِيدُ بِهِ دُخُولَ الْغَايَةِ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةِ.
وَكَذَا يُقَالُ سِنُّ فُلَانٍ مِنْ تِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ، وَيُرَادُ بِهِ دُخُولُ الْغَايَةِ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةِ.
وَكَذَا إذَا قِيلَ مَا بَيْنَ تِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ،.
وَقِيلَ إنَّ الْأَصْمَعِيَّ أَلْزَمَ زُفَرَ هَذَا الْفَصْلَ عَلَى بَابِ الرَّشِيدِ فَقَالَ لَهُ: كَمْ سِنُّكَ؟ فَقَالَ مِنْ سَبْعِينَ إلَى ثَمَانِينَ، وَكَانَ سِنُّهُ أَقَلَّ مِنْ ثَمَانِينَ فَتَحَيَّرَ زُفَرُ؛؛ وَلِأَنَّ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ قَدْ تَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ وَقَدْ لَا تَدْخُلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} وَاللَّيْلُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ فِيهِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي دُخُولِ الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي كَلَامِهِ، فَلَا يَدْخُلُ مَعَ الشَّكِّ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فِي قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ كَمَا قَالَ زُفَرُ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَقِيَاسُ ظَاهِرِ أَصْلِهِمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى اثْنَتَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الْغَايَتَيْنِ يَدْخُلَانِ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ دَاخِلَةً فِي الثِّنْتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَهَا غَيْرَ الثِّنْتَيْنِ، فَلَا تَقَعُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثِّنْتَيْنِ بِالشَّكِّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ إلَى اثْنَتَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ ثِنْتَانِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ الِابْتِدَاءَ هُوَ الْغَايَةُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ اثْنَتَيْنِ إلَيْهِمَا.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ، وَثَلَاثٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَا جَعَلَ الثَّلَاثَ غَايَةً، وَإِنَّمَا أَوْقَعَ مَا بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ- وَهُوَ وَاحِدَةٌ- فَتَقَعُ الْوَاحِدَةُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى أُخْرَى أَوْ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ- فَهِيَ وَاحِدَةٌ- أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَلِأَنَّ الْغَايَةَ الْأُولَى تَدْخُلُ، وَلَا تَدْخُلُ الثَّانِيَةُ فَتَقَعُ وَاحِدَةً.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْغَايَتَانِ، وَإِنْ كَانَتَا يَدْخُلَانِ جَمِيعًا لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ أَيْ: مِنْهَا وَإِلَيْهَا، فَلَا يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ زُفَرَ فَالْغَايَتَانِ لَا يَدْخُلَانِ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مَضْرُوبًا فِيهِ فَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ، وَيَقَعُ الْمَضْرُوبُ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَقَعُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَضْرُوبُ فِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي اثْنَتَيْنِ أَوْ قَالَ وَاحِدَةً فِي ثَلَاثٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ فِي اثْنَتَيْنِ؛ وَجُمْلَةُ الْجَوَابِ فِيهِ أَنَّهُ إنْ نَوَى بِهِ الظَّرْفَ وَالْوِعَاءَ لَا يَقَعُ إلَّا الْمَضْرُوبُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا، وَإِنْ نَوَى مَعَ يَقَعُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَضْرُوبُ فِيهِ بِقَدْرِ مَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَقَعُ الْمَضْرُوبُ لَا الْمَضْرُوبُ فِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ يَقَعُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَضْرُوبُ فِيهِ بِقَدْرِ مَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاحِدَ فِي اثْنَتَيْنِ اثْنَانِ عَلَى طَرِيقِ الضَّرْبِ وَالْحِسَابِ وَالْوَاحِدُ فِي الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةٌ وَالِاثْنَانِ فِي الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمَضْرُوبِ وَالْمَضْرُوبِ فِيهِ؛ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا إلَّا أَنَّ الْعَدَدَ الْمُجْتَمِعَ لَهُ عِبَارَتَانِ: إحْدَاهُمَا الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَالْأُخْرَى وَاحِدٌ فِي اثْنَيْنِ، وَوَاحِدٌ فِي ثَلَاثَةٍ وَاثْنَانِ فِي اثْنَيْنِ.
(وَلَنَا) وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا أَنَّ الضَّرْبَ إنَّمَا يَتَقَدَّرُ فِيمَا لَهُ مِسَاحَةٌ.
فَأَمَّا مَا لَا مِسَاحَةَ لَهُ، فَلَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ الضَّرْبُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ ضَرْبِ الِاثْنَيْنِ فِي الِاثْنَيْنِ خَطَّانِ يُضَمُّ إلَيْهِمَا خَطَّانِ آخَرَانِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ الِاثْنَانِ فِي الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْمِسَاحَةَ، فَإِذَا نَوَى فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ الضَّرْبَ فَقَدْ أَرَادَ مُحَالًا فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ.
وَالثَّانِي أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَعَدَّدُ بِالضَّرْبِ، وَإِنَّمَا يَتَكَرَّرُ أَجْزَاؤُهُ فَوَاحِدٌ فِي اثْنَيْنِ وَاحِدٌ لَهُ جُزْءَانِ وَاثْنَانِ فِي اثْنَيْنِ اثْنَانِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ، وَطَلَاقٌ لَهُ جُزْءٌ، وَطَلَاقٌ لَهُ جُزْءَانِ، وَثَلَاثَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَالثَّالِثُ إنَّهُ جَعَلَ الْمَضْرُوبَ فِيهِ ظَرْفًا لِلْمَضْرُوبِ وَالطَّلَاقُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا إذْ ظَرْفُ الشَّيْءِ هُوَ الْمُحْتَوِي عَلَيْهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ احْتِوَاءُ الطَّلَاقِ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الِاحْتِوَاءَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْسَامِ، فَلَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلْمَضْرُوبِ، فَلَا يَقَعُ، وَهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِك الدَّارَ، أَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَيْضَتِك لَا يَقَعُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ وَالْحَيْضَ ظَرْفًا، وَإِنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ ظَرْفًا لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ مَعْنَى الظَّرْفِ فِيهِمَا إلَّا أَنَّ ثَمَّةَ يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالدُّخُولِ وَالْحَيْضِ، وَيُجْعَلُ فِي بِمَعْنَى مَعَ لِمُنَاسِبَةٍ؛ لِأَنَّ مَعَ كَلِمَةُ مُقَارَنَةٍ وَالْمَظْرُوفُ يُقَارِنُ الظَّرْفَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ دُخُولِ الدَّارِ أَوْ مَعَ حَيْضِك، وَهَاهُنَا لَوْ أَرَادَ بِفِي مَعَ فِي قَوْلِهِ: فِي اثْنَيْنِ أَوْ فِي ثَلَاثٍ يَقَعُ الثَّلَاثُ.
وَكَذَا لَوْ أَرَادَ بِكَلِمَةِ فِي حَرْفَ الْوَاوِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَالظَّرْفُ يُجَامِعُ الْمَظْرُوفَ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كُلُّهُ وَالظَّرْفُ عَلَى إرَادَةِ الْمُقَارَنَةِ أَوْ الِاجْتِمَاعِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ.

.(فَصْلٌ): الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَهُوَ مُضِيُّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، وَهُوَ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْإِيلَاءِ حَتَّى لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ-، وَهُوَ الْبِرُّ- طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ تَرْكِ الْفَيْءِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ عَزْمَ الطَّلَاقِ تَرْكُ الْفَيْءِ إلَيْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَقَدْ جَعَلَ تَرَكَ الْفَيْءَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْإِيلَاءِ.
وَالْكَلَامُ فِي الْإِيلَاءِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْإِيلَاءِ لُغَةً، وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِيلَاءِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ أَمَّا تَفْسِيرُهُ فَالْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَمِينِ يُقَالُ آلَى أَيْ: حَلَفَ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْيَمِينُ أَلِيَّةً وَجَمْعُهَا أَلَايَا؛ قَالَ الشَّاعِرُ قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بُرَّتْ، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِلَّذِينَ يُقْسِمُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَالْقَسَمُ وَالْيَمِينُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} أَيْ: وَلَا يَحْلِفُ.
وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ، نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ أَوْ بِالْيَمِينِ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ جِمَاعِهَا أَوْ هَجْرِهَا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مَا لَمْ يَأْتِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْيَمِينُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ، فلابد مِنْ الْقَوْلِ، وَلَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيلَاءً فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبِرِّ إنَّمَا يَثْبُتُ لِصَيْرُورَتِهِ ظَالِمًا بِتَرْكِ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِيهِ.
وَلَوْ ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهِ عَنْ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ بِطَرِيقٍ يُؤَكِّدُهُ بِالْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ إيلَاءً؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ بِالْمَنْعِ وَالْمَنْعُ لَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِالْيَمِينِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَكُونُ مُولِيًا إلَّا بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَدْفَعُ هَذَا الْقَوْلَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَالْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَمِينِ وَاسْمُ الْيَمِينِ يَقَعُ عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَيَقَعُ عَلَى الْيَمِينِ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ.
وَلَوْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِغَيْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى لَا تَبِينُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إنْ قَرِبَهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ- وَهُوَ الْقُوَّةُ-.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ»، وَرُوِيَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ».
أَمَّا الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ الْجِمَاعِ فَأَنْوَاعُ بَعْضِهَا صَرِيحٌ، وَبَعْضُهَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، وَبَعْضُهَا كِنَايَةٌ أَمَّا الصَّرِيحُ فَلَفْظُ الْمُجَامَعَةِ بِأَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا.
وَأَمَّا الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ فَلَفْظُ الْقُرْبَانِ وَالْوَطْءِ وَالْمُبَاضَعَةِ وَالِافْتِضَاضِ فِي الْبِكْرِ؛ بِأَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا أَوْ لَا يَطَأَهَا أَوْ لَا يُبَاضِعَهَا أَوْ لَا يَفْتَضَّهَا، وَهِيَ بِكْرٌ.
؛ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ الْمُضَافَ إلَى الْمَرْأَةِ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ فِي الْعُرْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}.
وَكَذَا الْوَطْءُ الْمُضَافُ إلَيْهَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجِمَاعِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ»، وَالْمُبَاضَعَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبُضْعِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ أَوْ الْفَرْجُ، وَالِافْتِضَاضُ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةٌ عَنْ جِمَاعِ الْبِكْرِ-، وَهُوَ كَسْرُ الْعُذْرَةِ- مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَضِّ، وَهُوَ الْكَسْرُ.
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالْجِمَاعِ، فَأَمَّا الْجِمَاعُ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ فَالِاغْتِسَالُ لَا يَكُونُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْإِنْزَالِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُنْزِلْ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ.
وَفِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لَا يَقِفُ وُجُوبُ الِاغْتِسَالِ عَلَى وُجُودِ الْإِنْزَالِ، وَلَوْ قَالَ لَمْ أَعْنِ بِهِ الْجِمَاعَ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِكَوْنِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَنَحْوُ لَفْظَةِ الْإِتْيَانِ وَالْإِصَابَةِ بِأَنْ حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا أَوْ لَا يُصِيبُ مِنْهَا يُرِيدُ الْجِمَاعَ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ كِنَايَاتِ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْجِمَاعِ، وَفِي غَيْرِهِ اسْتِعْمَالًا عَلَى السَّوَاءِ، فلابد مِنْ النِّيَّةِ.
وَكَذَا لَفْظَةُ الْغَشَيَانِ بِأَنْ حَلَفَ لَا يَغْشَاهَا؛ لِأَنَّ الْغَشَيَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أَيْ: جَامَعَهَا، وَيُسْتَعْمَل فِي الْمَجِيءِ، وَفِي السِّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ} قِيلَ: يَأْتِيهِمْ،.
وَقِيلَ يَسْتُرُهُمْ، وَيُغَطِّيهِمْ، فلابد مِنْ النِّيَّةِ.
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَمَسُّ جِلْدُهُ جِلْدَهَا.
وَقَالَ: لَمْ أَعْنِ بِهِ الْجِمَاعَ يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ، وَيَحْتَمِلُ الْمَسَّ الْمُطْلَقَ فَيَحْنَثُ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَالْإِيلَاءُ مَا وَقَفَ الْحِنْثُ فِيهِ عَلَى الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا بِغَيْرِ مُمَاسَّةِ الْجِلْدِ بِأَنْ يَلُفَّ ذَكَرَهُ بِحَرِيرَةٍ فَيُجَامِعُهَا وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَمَسَّهَا لِمَا قُلْنَا.
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يُضَاجِعُهَا أَوْ لَا يَقْرَبُ فِرَاشَهَا.
وَقَالَ لَمْ أَعْنِ بِهِ الْجِمَاعَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا مِنْ غَيْرِ مُضَاجَعَةٍ، وَلَا قُرْبِ فِرَاشٍ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْتَمِعُ رَأْسِي، وَرَأْسُك فَإِنْ عَنَى بِهِ الْجِمَاعَ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْجِمَاعُ، وَإِنْ لَمْ يَعْنِ بِهِ الْجِمَاعَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَلَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى فِرَاشٍ، وَلَا مِرْفَقَةٍ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَهُ جِمَاعُهَا مِنْ غَيْرِ اجْتِمَاعٍ عَلَى الْفِرَاشِ، وَلَا شَيْءَ يَجْمَعُ رَأْسَهَا عَلَيْهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي، وَرَأْسَكِ وِسَادَةٌ أَوْ لَا يُؤْوِينِي، وَإِيَّاكِ بَيْتٌ أَوْ لَا أَبِيت مَعَك فِي فِرَاشٍ فَإِنْ عَنَى الْجِمَاعَ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْجِمَاعُ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَكَيْفَمَا جَامَعَهَا فَهُوَ حَانِثٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْنِ بِهِ الْجِمَاعَ فَلَيْسَ بِمُولٍ، وَلَا يَأْوِي مَعَهَا فِي بَيْتٍ، وَلَا يَبِيتُ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى وِسَادَةٍ لِئَلَّا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَيَطَؤُهَا عَلَى الْأَرْضِ وَالْبَوَادِي، وَلَوْ حَلَفَ لَأَسُوءَنَّكِ أَوْ لَأَغِيظَنَّكِ لَا يَكُونُ مُولِيًا إلَّا إذَا عَنَى بِهِ تَرْكَ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَسَاءَةَ قَدْ تَكُونُ بِتَرْكِ الْجِمَاعِ وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِهِ.
وَكَذَا الْغَيْظُ، فلابد مِنْ النِّيَّةِ.
وَأَمَّا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَبِصِفَاتِهِ فَهِيَ الْحَلِفُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ بِلَفْظٍ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الصِّفَةِ أَوْ يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ، وَفِي غَيْرِهَا لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ الصِّفَةِ، وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كِتَابُ الْأَيْمَانِ.
ثُمَّ الْإِيلَاءُ إذَا كَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَالْمُولِي لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ أَطْلَقَ الْإِيلَاءَ.
وَأَمَّا إنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ، وَأَمَّا إنْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ، وَأَمَّا إنْ وَقَّتَهُ إلَى غَايَةٍ فَإِنْ أَطْلَقَ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك كَانَ مُولِيًا لِلْحَالِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا، وَبِمَا يُحْلَفُ بِهِ عَادَةً يَصِيرُ مُولِيًا، أَوْ يُقَالُ: مَنْ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ زَوْجَتِهِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ فَهُوَ مُولٍ وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَصْلُحُ مَانِعًا- تَحَرُّزًا عَنْ الْهَتْكِ-، وَهُوَ مَا يُحْلَفُ بِهِ عَادَةً، وَعُرْفًا.
وَكَذَا لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ زَوْجَتِهِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ- وَهُوَ الْكَفَّارَةُ- فَيَصِيرُ مُولِيًا.
وَكَذَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا، وَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا أَوْ يَقُولَ لِنِسَائِهِ الْأَرْبَعِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ، وَهُمَا فَصْلٌ وَاحِدٌ وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا أَوْ إحْدَاكُنَّ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا أَوْ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ أَمَّا الْأَوَّلُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا صَارَ مُولِيًا مِنْهُمَا لِلْحَالِ حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَقْرَبْهُمَا فِيهَا بَانَتَا جَمِيعًا، وَيَبْطُلُ.
وَكَذَا إذَا قَالَ لِنِسَائِهِ الْأَرْبَعِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ صَارَ مُولِيًا مِنْهُنَّ لِلْحَالِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْرَبْهُنَّ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِنَّ جَمِيعًا، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ- وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ- وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُولِيًا فِي الْأَوَّلِ مَا لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا فَيَصِيرُ مُولِيًا مِنْ الْأُخْرَى.
وَفِي الثَّانِي مَا لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً فَيَصِيرُ مُولِيًا مِنْ الْأُخْرَى، وَفِي الثَّالِثِ مَا لَمْ يَطَأْ الثَّالِثَةَ مِنْهُنَّ فَيَصِيرُ مُولِيًا مِنْ الرَّابِعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ، وَهَاهُنَا يُمْكِنُهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى قُرْبَانُ إحْدَاهُمَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِوَطْءِ إحْدَاهُمَا إذْ جُعِلَ شَرْطُ الْحِنْثِ قُرْبَانَهُمَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ الثَّلَاثِ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِوَطْءِ الثَّلَاثِ مِنْهُنَّ فَلِمَ يُوجَدْ حَدُّ الْمُولِي، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا، وَإِذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا أَوْ وَطِئَ الثَّلَاثَ مِنْهُنَّ، فَلَا يُمْكِنُهُ وَطْءُ الْبَاقِيَةِ إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَوُجِدَ حَدُّ الْإِيلَاءِ فَيَصِيرُ مُولِيًا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُولِي مَنْ لَا يُمْكِنُهُ وَطْءُ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ.
وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُهُ وَطْؤُهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا أَوْ الثَّلَاثَ مِنْهُنَّ لَزِمَهُ تَعْيِينُ الْأُخْرَى لِلْإِيلَاءِ، وَهَذَا شَيْءٌ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ وَقَدْ وُجِدَ حَدُّ الْإِيلَاءِ فَيَكُونُ مُولِيًا، وَلَوْ قَرِبَ إحْدَاهُمَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْحِنْثِ، وَهُوَ قُرْبَانُهُمَا، وَلَكِنْ يَبْطُلُ إيلَاؤُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْقُرْبَانِ وَقَدْ وُجِدَ، وَالْإِيلَاءُ فِي حَقِّ الْبَاقِيَةِ عَلَى حَالِهِ لِانْعِدَامِ الْمُبْطِلِ فِي حَقِّهِمَا، وَهُوَ الْقُرْبَانُ، وَلَوْ قَرِبَهُمَا جَمِيعًا بَطَلَ إيلَاؤُهُمَا، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِوُجُودِ الْمُبْطِلِ لَهُمَا وَالْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ، وَهُوَ قُرْبَانُهُمَا.
وَلَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بَطَلَ إيلَاؤُهَا، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ وَطِئَ الْأُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قُرْبَانُهُمَا، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ.
وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا مِنْ إحْدَاهُمَا حَتَّى لَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَبَطَلَ الْإِيلَاءُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ، وَهُوَ قُرْبَانُ إحْدَاهُمَا، وَلَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا ثَلَاثًا أَوْ بَانَتْ بِلَا عِدَّةٍ تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَةُ لِلْإِيلَاءِ لِزَوَالِ الْمُزَاحَمَةِ، وَلَوْ لَمْ يَقْرَبْ إحْدَاهُمَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ بَانَتْ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَلَهُ خِيَارٌ أَنْ يُوقِعَ الطَّلَاقَ عَلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ شَرْعًا بِشَرْطِ تَرْكِ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ لَمْ أَقْرَبْ إحْدَاكُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فِي إحْدَاكُمَا طَالِقٌ بَائِنٌ.
وَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يَقْرَبْ إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ، وَلَهُ الْخِيَارُ يُوقِعُ عَلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ كَذَا هَذَا، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ الْإِيلَاءَ فِي إحْدَاهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ عَيَّنَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ بَلْ يَقَعُ عَلَى إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَيُخَيَّرُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَعَلَّقَتْ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ فَالتَّعْيِينُ يَكُونُ تَغْيِيرَ الْيَمِينِ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْيَمِينِ إبْطَالُهَا مِنْ وَجْهٍ وَالْيَمِينُ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ، فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ الْبِرِّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ، وَمَتَى عَلَّقَ الطَّلَاقَ الْمُبْهَمَ بِشَرْطٍ ثُمَّ أَرَادَ التَّعْلِيقَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَإِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَذَا هَذَا فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ، وَبَانَتْ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ أَيَّتِهِمَا شَاءَ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا وَقَعَ فِي الْمَجْهُولَةِ يَتَخَيَّرُ الزَّوْجُ فِي التَّعْيِينِ فَلَهُ أَنْ يُوقِعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَاهُمَا فَلَوْ لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى، وَبَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِتَطْلِيقَةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الْأُخْرَى.
وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ آلَى مِنْ إحْدَاهُمَا لَا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْإِيلَاءُ إلَّا إحْدَاهُمَا.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ لِعَدَمِ الْحِنْثِ فَكَانَ تَعْلِيقُ طَلَاقِ إحْدَاهُمَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ بَاقِيًا، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَاهُمَا فَقَدْ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُمَا وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَتَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِبَقَاءِ الْيَمِينِ فِي حَقِّهَا، وَتَعْلِيقِ طَلَاقِهَا كَمَا لَوْ زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ بِالْمَوْتِ بِأَنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا أَلَيْسَ أَنَّهُ تَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى كَذَا هَاهُنَا.
وَهَلْ يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ عَلَى الْمُولَيْ مِنْهَا بِالْإِيلَاءِ السَّابِقِ بِتَكْرَارِ الْمُدَّةِ؟ لَا نَصَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَتَرْجِيحُ بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ فِيهِ عَلَى الْبَعْضِ يُعْرَفُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى بَانَتْ الْأُخْرَى بِتَطْلِيقَةٍ عَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا مِنْهُمَا جَمِيعًا حَتَّى لَوْ مَضَتْ مُدَّةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَقْرَبْهُمَا فِيهَا بَانَتَا جَمِيعًا كَذَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُولِيًا مِنْهُمَا اسْتِحْسَانًا.
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ إحْدَاهُمَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهُمَا بَلْ عَنْ إحْدَاهُمَا، فَصَارَ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا قَرِبَ إحْدَاهُمَا يَحْنَثُ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْيَمِينَ تَنَاوَلَتْ إحْدَاهُمَا لَا غَيْرَ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ- وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ- أَنَّ قَوْلَهُ إحْدَاكُمَا مَعْرِفَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَى الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَاتُ مَعَارِفُ بَلْ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ وَالْمُضَافُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعْرِفَةٌ، وَالْمَعْرِفَةُ تَخْتَصُّ فِي النَّفْيِ كَمَا تَخْتَصُّ فِي الْإِثْبَاتِ وَقَوْلُهُ: وَاحِدَةً مِنْكُمَا نَكِرَةٌ؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوجِبُ صَيْرُورَتَهَا مَعْرِفَةً، وَهُوَ اللَّامُ أَوْ الْإِضَافَةُ فَبَقِيَتْ نَكِرَةً، وَأَنَّهَا فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَتَعُمُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ إدْخَالُ كَلِمَةِ الْإِحَاطَةِ وَالِاشْتِمَالِ- وَهِيَ كَلِمَةُ كُلٍّ- عَلَى وَاحِدَة مِنْكُمَا.
وَلَا يَسْتَقِيمُ إدْخَالُهَا عَلَى إحْدَاكُمَا حَتَّى يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ كُلَّ إحْدَاكُمَا فَدَلَّ أَنَّ قَوْلَهُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا يَصْلُحُ لَهُمَا وَقَوْلُهُ: إحْدَاكُمَا لَا يَصْلُحُ لَهُمَا، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا فَقَرِبَ إحْدَاهُمَا يَبْطُلُ إيلَاؤُهُمَا جَمِيعًا، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ، وَهُوَ قُرْبَانُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا فَقَرِبَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا إنَّهُ يَبْطُلُ إيلَاؤُهُمَا، وَلَا يَبْطُلُ إيلَاءُ الْبَاقِيَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ أَمَّا بُطْلَانُ إيلَاءِ الَّتِي قَرِبَهَا فَلِوُجُودِ شَرْطِ الْبُطْلَانِ، وَهُوَ الْقُرْبَانُ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقُرْبَانُ فِي الْبَاقِيَةِ، فَلَا يَبْطُلُ إيلَاؤُهَا، وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَلِعَدَمِ شَرْطِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ قُرْبَانُهُمَا جَمِيعًا.
قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا، لَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ مَا لَمْ يَقْرَبْ الْأَمَةَ فَإِذَا قَرِبَ الْأَمَةَ صَارَ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَقَبْلَ أَنْ يَقْرَبَ الْأَمَةَ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحِنْثَ بِقُرْبَانِهِمَا، فَلَا يَثْبُتُ بِقُرْبَانِ إحْدَاهُمَا، فَإِذَا قَرِبَ الْأَمَةَ فَقَدْ صَارَ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ زَوْجَتِهِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَصَارَ مُولِيًا.
وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي حَقِّ الْبِرِّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ إحْدَاكُمَا مَعْرِفَةٌ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى الْمَعْرِفَةِ، وَالْمَعْرِفَةُ تَخُصُّ، وَلَا تَعُمُّ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَحَلِّ الْإِثْبَاتِ أَوْ فِي مَحَلِّ النَّفْيِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا إحْدَاهُمَا، وَالْإِيلَاءُ فِي حَقِّ الْبِرِّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ تَرْكِ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ لَمْ أَقْرَبْ إحْدَاكُمَا فِي الْمُدَّةِ فَإِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا إذَا عَنَى امْرَأَتَهُ، وَمَا عَنَى هَاهُنَا، فَلَا يُمْكِنُهُ جَعْلُهُ إيلَاءً فِي حَقِّ الْبِرِّ.
وَلَوْ قَرِبَ إحْدَاهُمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ يَمِينًا فِي حَقِّ الْحِنْثِ وَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ قَرِبَهَا حَنِثَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إيلَاءً فِي حَقِّ الْبِرِّ كَذَا هَذَا.
وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا كَانَ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاحِدَةَ نَكِرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَتَعُمُّ عُمُومَ الْأَفْرَادِ كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ وَاحِدًا مِنْ رِجَالِ حَلَبَ إلَّا أَنَّهُ لَوْ قَرِبَ إحْدَاهُمَا حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ قُرْبَانُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَا قُرْبَانُهُمَا وَقَدْ وُجِدَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ حُرَّةٌ، وَأَمَةٌ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا صَارَ مُولِيًا مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَحَلُّ الْإِيلَاءِ فَإِذَا مَضَى شَهْرَانِ، وَلَمْ يَقْرَبْهُمَا بَانَتْ الْأَمَةُ لِمُضِيِّ مُدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ قُرْبَانٍ، وَإِذَا مَضَى شَهْرَانِ آخَرَانِ بَانَتْ الْحُرَّةُ أَيْضًا لِتَمَامِ مُدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَحَلُّ الْإِيلَاءِ وَقَدْ أَضَافَ الْإِيلَاءَ إلَى إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَيَصِيرُ مُولِيًا مِنْ إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرَيْنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا مَضَى شَهْرَانِ، وَلَمْ يَقْرَبْهُمَا بَانَتْ الْأَمَةُ لَا؛ لِأَنَّهَا عُيِّنَتْ لِلْإِيلَاءِ بَلْ لِسَبْقِ مُدَّتِهَا، وَاسْتَوْثَقَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ عَلَى الْحُرَّةِ فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَقْرَبْهَا بَانَتْ الْحُرَّةُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْحِنْثُ فَكَانَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ عَلَى إحْدَاهُمَا بَاقِيًا، فَإِذَا مَضَى شَهْرَانِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى الْأَمَةِ فَقَدْ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهَا وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَتَعَيَّنَتْ الْحُرَّةُ لِبَقَاءِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّهَا، وَتَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَإِنَّمَا اسْتَوْثَقَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ عَلَى الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ انْعَقَدَتْ لَإِحْدَاهُمَا وَقَدْ تَعَيَّنَتْ الْأَمَةُ لِلسَّبْقِ فَيَبْتَدِئُ الْإِيلَاءُ عَلَى الْحُرَّةِ مِنْ وَقْتِ بَيْنُونَةِ الْأَمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ انْعَقَدَتْ الْمُدَّةُ لَهُمَا فَإِذَا مَضَى شَهْرَانِ فَقَدْ تَمَّتْ مُدَّةُ الْأَمَةِ فَتُتِمُّ مُدَّةُ الْحُرَّةِ بِشَهْرَيْنِ آخَرَيْنِ، وَلَوْ مَاتَتْ الْأَمَةُ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرَيْنِ تَعَيَّنَتْ الْحُرَّةُ لِلْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ حَتَّى إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ تَبِينُ لِزَوَالِ الْمُزَاحَمَةِ بِمَوْتِ الْأَمَةِ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْهُمَا جَمِيعًا حَتَّى لَوْ مَضَى شَهْرَانِ تَبِينُ الْأَمَةُ، ثُمَّ إذَا مَضَى شَهْرَانِ آخَرَانِ تَبِينُ الْحُرَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا إلَّا أَنَّ هاهنا إذَا قَرِبَ إحْدَاهُمَا حَنِثَ، وَبَطَلَ الْإِيلَاءُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ، وَإِنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك.
إذَا أَضَافَهُ إلَى الْوَقْتِ بِأَنْ قَالَ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، أَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ شَهْرِ كَذَا فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، وَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ أَوْ الْوَقْتُ فَيَصِيرُ مُولِيًا، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ، وَالْيَمِينُ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَإِنَّ وَقَّتَهُ إلَى غَايَةٍ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَجْعُولُ غَايَةً لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ يَكُونُ مُولِيًا كَمَا إذَا قَالَ: وَهُوَ فِي شَعْبَانَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَصُومَ الْمُحَرَّمَ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ قُرْبَانِهَا بِمَا يَصْلُحُ مَانِعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْغَايَةِ- وَهُوَ صَوْمُ الْمُحَرَّمِ- فِي الْمُدَّةِ، وَكَذَلِكَ يُعَدُّ مَانِعًا فِي الْعُرْفِ؛ لِأَنَّهُ يُحْلَفُ بِهِ عَادَةً.
وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إلَّا فِي مَكَانِ كَذَا، وَبَيَّنَهُ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ الْمَكَانَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِإِمْكَانِ الْقُرْبَانِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَفْطِمِي صَبِيَّكِ، وَبَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْفِطَامِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا يَكُونُ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَخْرُجَ الدَّابَّةُ مِنْ الْأَرْضِ أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا.
فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ مُولِيًا لِتَصَوُّرِ وُجُودِ الْغَايَةِ فِي الْمُدَّةِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَهَا عَلَامَاتٌ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْإِيلَاء عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْإِخْبَارُ، فَلَا تُوجَدُ هَذِهِ الْغَايَةُ فِي زَمَانِنَا فِي مُدَّةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عَادَةً فَلَمْ تَكُنِ الْغَايَةُ مُتَصَوَّرَةَ الْوُجُودِ عَادَةً، فَلَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ عَادَةً فَيَكُونُ مُولِيًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ التَّأْبِيدِ فِي الْعُرْفِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَبَدًا وَكَذَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تُقَوَّمَ السَّاعَةُ كَانَ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ فِي الْعَقْلِ قِيَامُ السَّاعَةِ سَاعَةً فَسَاعَةً لَكِنْ قَامَتْ دَلَائِلُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقُومُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ أَشْرَاطِهَا الْعِظَامِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَخُرُوجِ يَأْجُوجَ، وَمَأْجُوجَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا فَلَمْ تَكُنْ الْغَايَةُ قَبْلَهَا مُتَصَوَّرَةَ الْوُجُودِ عَادَةً عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْغَايَةِ تُذْكَرُ، وَيُرَادُ بِهَا التَّأْبِيدُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} أَيْ: لَا يَدْخُلُونَهَا أَصْلًا، وَرَأْسًا، وَكَمَا يُقَالُ: لَا أَفْعَلُ كَذَا حَتَّى يَبْيَضَّ الْفَأْرُ، وَيَشِيبَ الْغُرَابُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَمُوتِي أَوْ حَتَّى أَمُوتَ أَوْ حَتَّى تُقْتَلِي أَوْ حَتَّى أُقْتَلَ أَوْ حَتَّى أَقْبَلَك أَوْ حَتَّى تَقْبَلِينِي كَانَ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْمُدَّةِ لَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ النِّكَاحِ بَعْدَ وُجُودِهَا فَيَصِيرُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك مَا دُمْت زَوْجَكِ أَوْ مَا دُمْتِ زَوْجَتِي أَوْ مَا دُمْتُ حَيًّا أَوْ مَا دُمْتِ حَيَّةً، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ مُولِيًا إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لَمَا تُصُوِّرَ انْعِقَادُ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ ثَابِتٌ فِي كُلِّ الْإِيلَاءِ.
قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةُ الْغَيْرِ- وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَمْلِكَكِ أَوْ أَمْلِكَ شِقْصًا مِنْك يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْقَى بَعْدَ مِلْكِهَا أَوْ شِقْصًا مِنْهَا فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك مَا دُمْتُ زَوْجَكِ أَوْ مَا دُمْتِ زَوْجَتِي، وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَشْتَرِيَك لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَرْتَفِعُ بِمُطْلَقِ الشِّرَاءِ لِجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُهَا، فَلَا يَرْتَفِعُ النِّكَاحُ.
وَكَذَا إذَا قَالَ: حَتَّى أَشْتَرِيَك لِنَفْسِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِيهَا شِرَاءً فَاسِدًا، فَلَا يَرْتَفِعُ النِّكَاحُ، فَلَا يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ قَالَ: حَتَّى أَشْتَرِيَك لِنَفْسِي، وَأَقْبِضَك كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ فَيَرْتَفِعُ النِّكَاحُ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك مَا دُمْت فِي نِكَاحِي، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ النِّكَاحِ مَعَ وُجُودِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَوْ حَلَفَ بِهِ لَكَانَ مُولِيًا يَصِيرُ مُولِيًا إذَا جَعَلَهُ غَايَةً، وَإِلَّا، فَلَا.
هَذَا أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ.
وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَهُ قُرْبَانُهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا،، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَعْتِقَ عَبْدِي فُلَانًا أَوْ حَتَّى أُطَلِّقَ امْرَأَتِي فُلَانَةَ أَوْ حَتَّى أَصُومَ شَهْرًا أَنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ مُولِيًا، لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ هَذِهِ الْغَايَاتِ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا كَمَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَدْخُلَ الدَّارَ أَوْ حَتَّى أُكَلِّمَ فُلَانًا، وَلَهُمَا أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا، وَبِمَا يُحْلَفُ بِهِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ عِتْقُ عَبْدِهِ، وَطَلَاقُ امْرَأَتِهِ وَصَوْمُ الشَّهْرِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكَانَ مُولِيًا فَكَذَا إذَا جَعَلَهَا غَايَةً.
وَكَذَا لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ: إمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ أَوْ عِتْقُ الْعَبْدِ أَوْ طَلَاقُ الْمَرْأَةِ أَوْ صَوْمُ الشَّهْرِ، فَيَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ قَرِبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَكَانَ مُولِيًا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الدُّخُولِ وَالْكَلَامِ.
قَالَ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَقْتُلَ عَبْدِي أَوْ حَتَّى أَشْتُمَ عَبْدِي أَوْ حَتَّى أَشْتُمَ فُلَانًا أَوْ أَضْرِبَ فُلَانًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْلَفْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عُرْفًا، وَعَادَةً، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فَكَذَا إذَا جَعَلَهُ غَايَةً لِلْإِيلَاءِ.
وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ قَتْلُ عَبْدِي أَوْ ضَرْبُ عَبْدِي أَوْ شَتْمُ عَبْدِي أَوْ قَتْلُ فُلَانٍ أَوْ ضَرْبُ فُلَانٍ أَوْ شَتْمُ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا كَمَا لَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَ الدَّارَ أَوْ أُكَلِّمَ فُلَانًا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا الْيَمِينُ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَنَحْوُ قَوْلِهِ: إنْ قَرِبْتُك فَامْرَأَتِي الْأُخْرَى طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ: فَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ أَوْ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ فَعَلَيَّ هَدْيٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ اعْتِكَافٌ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُوَّةِ، وَالْحَالِفُ يَتَقَوَّى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ قُرْبَانِ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَصْلُحُ مَانِعًا مِنْ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَى الطَّبْعِ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِحُصُولِ مَا وُضِعَ لَهُ الْيَمِينُ، وَهُوَ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ.
وَكَذَا يُعَدُّ مَانِعًا فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَكَذَا لِبَعْضِهَا مَدْخَلٌ فِي الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ الْعِتْقُ وَالصَّدَقَةُ، وَهِيَ الْإِطْعَامُ وَالصَّوْمُ وَالْهَدْيُ، وَالِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَدْخَلٌ فِي الْكَفَّارَةِ فَلَهُمَا تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِمَا إلَّا بِمَالٍ غَالِبًا فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ وَالصَّدَقَةَ لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْمَالِ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ إنْ قَرِبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ مُولِيًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْخِلَافَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ، وَهَاهُنَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِأَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ قَبْلَ أَنْ يَقْرَبَهَا ثُمَّ يَقْرَبُهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا (وَجْهُ)
قَوْلِهِمَا أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا بِمَا يَصْلُحُ مَانِعًا، وَيُعَدُّ مَانِعًا فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَكَانَ مُولِيًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ قَبْلَ الْقُرْبَانِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالْقُرْبَانِ، فَيَكُونُ الْمِلْكُ قَائِمًا لِلْحَالِ وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ وَالْبَيْعُ مَوْهُومٌ فَكَانَ الْحِنْثُ عِنْدَ الْقُرْبَانِ لَازِمًا عَلَى اعْتِبَارِ الْحَالِ ظَاهِرًا، وَغَالِبًا، وَلَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ حُرًّا.
وَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَهُوَ مُولٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ مُولِيًا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْيَمِينَ بِالْقُرْبَانِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْقُرْبَانِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ التَّمْلِيكِ وَالتَّزَوُّجِ وَالْجَزَاءُ الْمَانِعُ مِنْ الْقُرْبَانِ مَا يُلْزَمُ عِنْدَ الْقُرْبَانِ؛ وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ التَّمَلُّكِ وَالتَّزَوُّجِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ جَعَلَ الْقُرْبَانَ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَكَوْنُ الْقُرْبَانِ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ يَصْلُحُ مَانِعًا لَهُ عَنْ الْقُرْبَانِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَرِبَهَا انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ وَالْيَمِينُ إذَا انْعَقَدَتْ يَحْتَاجُ إلَى مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ خَوْفًا عَنْ نُزُولِ الْجَزَاءِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ وَقْتَ الْقُرْبَانِ، وَهُوَ انْعِقَادُ الْيَمِينِ الَّتِي يَلْزَمُ عِنْدَ انْحِلَالِهَا حُكْمُ الْحِنْثِ فَيَصِيرُ مُولِيًا وَقَوْلُهُ: يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ قُلْنَا وَقَدْ يَمْلِكُ مِنْ غَيْرِ تَمَلُّكٍ بِالْإِرْثِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ.
لَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرِ كَذَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ يَمْضِي قَبْلَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْضِي قَبْلَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ وَطْؤُهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِصِيَامٍ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَغْزُوَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ مُولِيًا كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي- فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ- الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الصَّلَاةَ مِمَّا يَصِحُّ إيجَابُهَا بِالنَّذْرِ كَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَيَصِيرُ مُولِيًا كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ حَجٌّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ مَانِعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْقُلُ عَلَى الطَّبْعِ بَلْ يَسْهُلُ، وَلَا يُعَدُّ مَانِعًا فِي الْعُرْفِ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِالصَّلَاةِ وَالْغَزْوِ بِخِلَافِ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ، فَلَا يَصِيرُ مُولِيًا، كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَوْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ.
وَكَذَا لَا مَدْخَلَ لِلصَّلَاةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَالِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَلَوْ قَالَ إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ أَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ يَمِينٌ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ الْتِزَامُ الْكَفَّارَةِ نَصًّا، وَقَوْلُهُ: عَلَيَّ يَمِينٌ مُوجِبُ الْيَمِينِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ نَحْرُ وَلَدِي أَنَّهُ مُولٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّذْرَ بِنَحْرِ الْوَلَدِ يَصِحُّ، وَيَجِبُ ذَبْحُ شَاةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ بَاطِلٌ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَلَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ امْرَأَةِ فُلَانٍ، وَفُلَانٍ كَانَ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ فَإِنْ نَوَى الْإِيلَاءَ كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ آلَى مِنْهَا زَوْجُهَا لِإِتْيَانِهِ بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِلتَّشْبِيهِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْإِيلَاءَ انْصَرَفَ التَّشْبِيهُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ التَّحْرِيمَ وَلَا الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنَا مِنْك مُولٍ إنَّهُ إنْ عَنَى بِهِ الْخَبَرَ بِالْكَذِبِ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَخَبَرُ غَيْرِ الْمَعْصُومِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ يُحْمَلُ عَلَى الصِّدْقِ وَلَا يَكُونُ صَادِقًا إلَّا بِثُبُوتِ الْمُخْبَر بِهِ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْإِيجَابَ كَانَ مُولِيًا فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِيجَابِ فِي الْعُرْفِ وَلَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُك فِي إيلَائِهَا كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْإِيلَاءِ لَوْ صَحَّتْ لَثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْمُدَّةِ فَيَصِيرُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيلَاءِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ مُولٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ جَعَلَ الطَّلَاقَ جَزَاءً مَانِعًا مِنْ الْقُرْبَانِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَصَارَ مُولِيًا كَذَا هَذَا، وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَهُوَ مُولٍ لِلْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ مُولِيًا مَا لَمْ يَقْرَبْهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إذَا نَوَى بِهِ الْيَمِينَ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ يَكُونُ إيلَاءً بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَصَارَ الْإِيلَاءُ مُعَلَّقًا بِالْقُرْبَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَقْرَبَهَا كَذَا هَذَا،، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ قُرْبَانِ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ بِمَا لَا يَصْلُحُ مَانِعًا- وَهُوَ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ حَدُّ الْمُولِي- فَيَصِيرُ مُولِيًا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ لابد مِنْ مَعْرِفَةِ مَسْأَلَةِ الْحَرَامِ؛ أَعْنِي قَوْلَهُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطِ الْقُرْبَانِ أَنَّ حُكْمَهَا مَا هُوَ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى شَيْءٍ خَاصٍّ نَحْوِ امْرَأَتِهِ أَوْ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ أَوْ اللِّبَاسِ.
وَأَمَّا إنْ أَضَافَهُ إلَى كُلِّ حَلَالٍ عَلَى الْعُمُومِ فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى امْرَأَتِهِ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ قَدْ حَرَّمْتُك عَلَيَّ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ أَوْ قَدْ حَرَّمْت نَفْسِي عَلَيْك أَوْ أَنْتِ مُحْرِمَةٌ عَلَيَّ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ، وَغَيْرَهُ، فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ انْصَرَفَ إلَيْهِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا يَكُونُ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً يَكُونُ وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ يَكُونُ وَاحِدَةً بَائِنَةً عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ، وَنَوَى التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ يَمِينٌ عِنْدَنَا، وَيَصِيرُ مُولِيًا حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا لِمَا تَبَيَّنَ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِهِ الْكَذِبَ، يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ شَيْئًا وَلَا يُصَدَّقُ فِي نَفْيِ الْيَمِينِ فِي الْقَضَاءِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحَرَامُ يَمِينٌ حَتَّى رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا أَمَا كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ نَوَى طَلَاقًا فَطَلَاقٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا فَيَمِينٌ كَفَّرَهَا، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مَا أُبَالِي حُرْمَتَهَا أَوْ قِطْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَفِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ هَلْ هُوَ يَمِينٌ؟ عِنْدَنَا يَمِينٌ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ تَغْيِيرُ الشَّرْعِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا خَرَجَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} مَخْرَجَ الْعِتَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ- سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى- وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْيَمِينَ لَا يُحَرِّمُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَلَى الْحَالِفِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ بِكَوْنِهِ حَلَالًا.
(وَلَنَا) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلَى قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} قِيلَ: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي تَحْرِيمِ جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ لَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ يَمِينًا بِقَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أَيْ: وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَوْ أَبَاحَ لَكُمْ أَنْ تُحِلُّوا مِنْ أَيْمَانِكُمْ بِالْكَفَّارَةِ، وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ كَفَّارَةَ أَيْمَانِكُمْ وَالْخِطَابُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْحَرَامَ يَمِينًا.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْحَرَامَ يَمِينًا، وَبَعْضُهُمْ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِيهِ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ- وَلَا يَمِينَ- لَا تُتَصَوَّرُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ نَوْعَانِ غَلِيظَةٌ، وَخَفِيفَةٌ فَكَانَتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ تَعْيِينَ بَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فَيَصِحُّ، وَإِذَا نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الْحُرْمَةِ وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِلْحَالِ، وَإِثْبَاتُ حُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْمُخَالِفَ يُوجِبُ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ تَسْتَدْعِي وُجُودَ الْيَمِينِ فَدَلَّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَمِينٌ فِي الشَّرْعِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْكَذِبَ لَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ الْيَمِينِ فِي الْقَضَاءِ بِعُدُولِهِ عَنْ الظَّاهِرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ تَغْيِيرُ الشَّرْعِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ مِنْ الْحَالِفِ حَقِيقَةً بَلْ مِنْ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ كَالتَّحْلِيلِ إثْبَاتُ الْحِلِّ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَلْ الْحُرْمَةُ وَالْحِلُّ، وَسَائِرُ الْحُكُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ثَبَتَتْ بِإِثْبَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهَا أَصْلًا إنَّمَا مِنْ الْعَبْدِ مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الثُّبُوتِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ الزَّوْجِ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّهُ- اللَّهُ تَعَالَى- بَلْ مُبَاشَرَةَ سَبَبِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ أَوْ مَنْعَ النَّفْسِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْحَلَالِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ وَقَدْ يُمْنَعُ الْمَرْءُ مِنْ تَنَاوُلِ الْحَلَالِ لِغَرَضٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ تَحْرِيمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} وَالْمُرَادُ مِنْهُ امْتِنَاعُ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الِارْتِضَاعِ مِنْ غَيْرِ ثَدْيِ أُمِّهِ لَا التَّحْرِيمُ الشَّرْعِيُّ، وَعَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يُحْمَلُ التَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ حَقِيقَةً فَمَا مَعْنَى إلْحَاقِ الْعِتَابِ بِهِ؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ إنْ كَانَ يُوهِمُ الْعِتَابَ فَلَيْسَ بِعِتَابٍ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ تَخْفِيفُ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْدُوبًا إلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَهُنَّ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ وَالرَّحْمَةِ بِهِنَّ فَبَلَغَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ مَبْلَغًا امْتَنَعَ عَنْ الِامْتِنَاعِ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ يَبْتَغِي بِهِ حُسْنَ الْعِشْرَةِ فَخَرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ تَخْفِيفِ الْمُؤْنَةِ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَهُنَّ لَا مَخْرَجَ النَّهْيِ وَالْعِتَابِ، وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ النَّهْيِ وَالْعِتَابِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وَالثَّانِي: إنْ كَانَ ذَلِكَ الْخِطَابُ عِتَابًا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا عُوتِبَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِلَا إذْنٍ سَبَقَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ تَنَاوُلِ الْحَلَالِ وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعَاتَبُونَ عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ مِنْهُمْ يُوجَدُ مِمَّا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَعُدَّ مِنْ أَفْضَلِ شَمَائِلِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} وَقَوْلِهِ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالثَّانِي: إنْ كَانَ هَذَا تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَكِنْ لِمَ قُلْت إنَّ كُلَّ تَحْرِيمِ حَلَالٍ مِنْ الْعَبْدِ تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ بَلْ ذَلِكَ نَوْعَانِ: تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مُطْلَقًا.
وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ بَلْ اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ، وَتَحْرِيمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةٍ لَا يَكُونُ تَغْيِيرًا بَلْ يَكُونُ بَيَانَ نِهَايَةِ الْحَلَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحِلُّ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةِ وُجُودِ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ التَّطْلِيقُ مِنْ الزَّوْجِ تَغْيِيرًا لِلشَّرْعِ بَلْ كَانَ بَيَانَ انْتِهَاءِ الْحِلِّ،، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ وَالسُّقُوطَ، وَعَلَى هَذَا سَبِيلُ النَّسْخِ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّنَاسُخَ، فَكَذَا قَوْلُهُ: لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ، وَالتَّشْبِيهُ لابد لَهُ مِنْ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَا يَكُونُ ظِهَارًا وَلَهُمَا أَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً وَالْمَرْأَةُ تَارَةً تَكُونُ مُحَرَّمَةً بِالطَّلَاقِ، وَتَارَةً تَكُونُ مُحَرَّمَةً بِالظِّهَارِ فَأَيَّ ذَلِكَ نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فِيهِ هَذَا إذَا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى الْمَرْأَةِ.
فَأَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ أَوْ اللِّبَاسِ بِأَنْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ هَذَا الشَّرَابُ أَوْ هَذَا اللِّبَاسُ فَهُوَ يَمِينٌ عِنْدَنَا، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا فَعَلَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا قَالَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَنَّهُ يَمِينٌ أَمْ لَا؟ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قِيلَ: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي تَحْرِيمِ الْعَسَلِ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَمِينًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَدَلَّ أَنَّ تَحْرِيمَ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ يَمِينٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ تَحِلَّةَ الْيَمِينِ هِيَ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ نَزَلَتْ فِيهِمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ لَكَانَ يَمِينًا، فَكَذَا إذَا أُضِيفَ إلَى غَيْرِهِمَا كَانَ يَمِينًا؛ كَلَفْظِ الْقَسَمِ إذَا أُضِيفَ إلَى الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ كَانَ يَمِينًا، وَإِذَا أُضِيفَ إلَى غَيْرِهِمَا كَانَ يَمِينًا أَيْضًا، كَذَا هَذَا، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ يَمِينًا مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْمُعَيَّنِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُعَيَّنِ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَإِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهُ فَقَدْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَيَحْنَثُ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ هُنَاكَ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ- وَهُوَ أَكْلُ كُلِّ الطَّعَامِ- وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ.
وَلَوْ قَالَ: نِسَائِي عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ فَقَرِبَ إحْدَاهُنَّ كَفَّرَ، وَسَقَطَتْ الْيَمِينُ فِيهِنَّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى جَمْعٍ فَيُوجِبُ تَحْرِيمَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَمْعِ فَصَارَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَمْعِ مُحَرَّمًا عَلَى الِانْفِرَادِ فَإِذَا قَرِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَقَدْ فَعَلَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَحْنَثُ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَإِنْ لَمْ يَقْرُبْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِنَّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى انْفِرَادِهَا وَالْإِيلَاءُ يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ، هَذَا إذَا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى نَوْعٍ خَاصٍّ،.
فَأَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا بِأَنْ قَالَ: كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ عَقِيبَ كَلَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ اللَّفْظَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ حَلَالٍ، وَكَمَا فَرَغَ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ حَلَالٍ يُوجَدُ مِنْهُ فَيَحْنَثُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا عَامٌّ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ مُبَاحٍ مِنْ فَتْحِ عَيْنِهِ، وَغَضِّ بَصَرِهِ، وَتَنَفُّسِهِ، وَغَيْرِهَا مِنْ حَرَكَاتِهِ، وَسَكَنَاتِهِ الْمُبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ وَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَمَّا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِعُمُومِ هَذَا اللَّفْظِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ- وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ- بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا فِي الْعُرْفِ، وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ لِثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ حُمِلَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَهُوَ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، كَذَا هَذَا فَإِنْ نَوَى مَعَ ذَلِكَ اللِّبَاسَ أَوْ امْرَأَتَهُ فَالتَّحْرِيمُ وَاقِعٌ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَأَيَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَ، وَحْدَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِتَنَاوُلِ كُلِّ الْمُبَاحَاتِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ فَإِذَا نَوَى شَيْئًا زَائِدًا عَلَى الْمُتَعَارَفِ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، فَإِذَا نَوَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ بِأَنْ نَوَى الطَّعَامَ خَاصَّةً أَوْ الشَّرَابَ خَاصَّةً أَوْ اللِّبَاسَ خَاصَّةً أَوْ امْرَأَتَهُ خَاصَّةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْقَضَاءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ عُمُومِهِ، وَمِثْلُهُ يُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ، فَإِذَا قَالَ أَرَدْت وَاحِدًا بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ تَرَكَ ظَاهِرَ لَفْظٍ هُوَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْعُدُولُ فَيُصَدَّقُ، وَإِنْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَنَوَى امْرَأَتَهُ كَانَ عَلَيْهَا، وَعَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ دَخَلَا تَحْتَ ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَلَمْ يَنْفِهِمَا بِنِيَّتِهِ فَبَقِيَا دَاخِلَيْنِ تَحْتَ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ نَوَى امْرَأَتَهُ خَاصَّةً، وَنَفَى الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ بِنِيَّتِهِ فَلَمْ يَدْخُلَا وَهَاهُنَا لَمْ يَنْفِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ نِيَّتَهُ وَقَدْ دَخَلَا تَحْتَ اللَّفْظِ فَبَقِيَا كَذَلِكَ مَا لَمْ يُنْفَيَا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ نَوَى فِي امْرَأَتِهِ الطَّلَاقَ لَزِمَهُ الطَّعَامُ فِيهَا فَإِنْ أَكْلَ أَوْ شَرِبَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِذَا أَرَادَ بِهِ فِي الزَّوْجَةِ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الْأَمْرَيْنِ، وَأَغْلَظُهُمَا لَا يَبْقَى الْآخَرُ مُرَادًا.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ، يَعْنِي فِي إحْدَاهُمَا الطَّلَاقَ، وَفِي الْأُخْرَى الْإِيلَاءَ فَهُمَا طَالِقَانِ جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِذَا أَرَادَهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يُحْمَلُ عَلَى أَغْلَظِهِمَا، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا.
وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ عَلَيَّ حَرَامٌ- يَنْوِي الطَّلَاقَ- وَهَذِهِ عَلَيَّ حَرَامٌ- يَنْوِي الْإِيلَاءَ- كَانَ كَمَا نَوَى؛؛ لِأَنَّهُمَا لَفْظَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِأَحَدِهِمَا خِلَافُ مَا يُرَادُ بِالْآخَرِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي فِي إحْدَاهُمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَفِي الْأُخْرَى وَاحِدَةً أَنَّهُمَا جَمِيعًا طَالِقَانِ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ خِلَافُ حُكْمِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا نَوَاهُمَا يُحْمَلُ عَلَى أَغْلَظِهِمَا، وَأَشَدِّهِمَا.
وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ مِنْ مَالٍ وَأَهْلٍ وَنَوَى الطَّلَاقَ فِي أَهْلِهِ قَالَ: وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي الطَّعَامِ فَإِنْ أَكْلَ لَمْ يَحْنَثْ لِمَا قُلْنَا.
قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَهَذِهِ- يَنْوِي الطَّلَاقَ-؛ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تَنَاوَلَتْ الطَّلَاقَ، فَلَا تَتَنَاوَلُ تَحْرِيمَ الطَّعَامِ.
وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالدَّمِ أَوْ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ كَالْخَمْرِ أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ؛ فَإِنْ نَوَى كَذِبًا فَهُوَ كَذِبٌ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ صَرِيحًا فِي التَّحْرِيمِ لِيُجْعَلَ يَمِينًا فَيُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَذِبَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ فَكَانَ يَمِينًا، وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ فَهُوَ إيلَاءٌ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ حَرَامٌ.
وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ أُمِّي- يُرِيدُ التَّحْرِيمَ- قَالَ: هُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا مِثْلَ أُمِّهِ لِيَكُونَ تَحْرِيمًا، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا أُمَّهُ فَيَكُونُ كَذِبًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بِهَذَا لَثَبَتَ إذَا قَالَ أَنْتِ حَوَّاءُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ.
وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ مَعِي حَرَامٌ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ يُقَامُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.(فَصْلٌ): شَرَائِطُ رُكْنِ الْإِيلَاءِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ رُكْنِ الْإِيلَاءِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ صِحَّتِهِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَنَوْعٌ هُوَ شَرْطُ صِحَّتِهِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ، وَهُوَ الطَّلَاقُ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَوْضِعُ بَيَانِهِ كِتَابُ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يُسَاوِي سَائِرَ الْأَيْمَانِ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ حُكْمُ الْحِنْثِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْآخَرِ، وَهُوَ حُكْمُ الْبِرِّ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِسَائِرِ الْأَيْمَانِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْبِرِّ فِيهَا وَلِلْإِيلَاءِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْبِرِّ حُكْمٌ، وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ شَرْعًا بِشَرْطِ الْبِرِّ كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبْكِ فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ، فَنَذْكُرُ الشَّرَائِطَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ فَنَقُولُ: لِرُكْنِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَعُمُّ كُلَّ يَمِينٍ بِالطَّلَاقِ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْإِيلَاءَ.
أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ فَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرَائِطِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ حَتَّى لَا يَصْلُحَ إيلَاءُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ.
وَكَذَا لَوْ آلَى مِنْ أَمَتِهِ أَوْ مُدَبَّرَتِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ لَمْ يَصِحَّ إيلَاؤُهُ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْإِيلَاءَ بِالزَّوْجَاتِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَالزَّوْجَةُ اسْمٌ لِلْمَمْلُوكَةِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ، وَشَرْعُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَأَنَّهَا، وَرَدَتْ فِي الْأَزْوَاجِ فَتَخْتَصُّ بِهِمْ،؛ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لِمَنْعِهِ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ مَنْعًا مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ قِبَلَ مَوْلَاهَا فِي الْجِمَاعِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الظُّلْمُ، فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الدَّفْعِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ الْحَاصِلَةَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ وَلَا طَلَاقَ بِدُونِ النِّكَاحِ، وَلَوْ آلَى مِنْهَا وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَهُوَ مُولٍ لِقِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِهَذَا صَحَّ طَلَاقُهُ، وَظِهَارُهُ، وَيَتَوَارَثَانِ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ بِالْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثِ وَالْإِيلَاءُ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ كَانَ يَبْقَى بِدُونِ الْمِلْكِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُولِيًا فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بَعْدَ التَّزَوُّجِ وَلَمْ يَفِئْ إلَيْهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ وَلَوْ قَرِبَهَا بَعْدَ التَّزَوُّجِ أَوْ قَبْلَهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَتَزَوَّجَهَا صَارَ مُولِيًا عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْمِلْكِ عِنْدَ التَّزَوُّجِ وَالْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ يَصِحُّ فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ، وَهَاهُنَا وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَيَصِيرُ مُولِيًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَكَذَا جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ التَّطْلِيقِ فَهُوَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْإِيلَاءَ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُدَّةُ، وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فِي الْحُرَّةِ أَوْ يَحْلِفَ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَبَّدًا حَتَّى لَوْ حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي حَقِّ الطَّلَاقِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، يَسْتَوِي فِيهَا الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا يَوْمًا أَوْ سَاعَةً كَانَ مُولِيًا حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إنَّ الْإِيلَاءَ عَلَى الْأَبَدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَلَمَّا كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا تَرَكَ إيلَاءَهُنَّ فَقِيلَ لَهُ إنَّك آلَيْتَ شَهْرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الشَّهْرُ تِسْعَةٌ، وَعِشْرُونَ يَوْمًا»؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكَرْ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ لِلْإِيلَاءِ مُدَّةً بَلْ أَطْلَقَهُ إطْلَاقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُدَّةَ لِثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ حَتَّى تَبِينَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ لَا لِيَصِيرَ إيلَاءً شَرْعًا، وَبِهِ نَقُولُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ذِكْرٌ لِلْإِيلَاءِ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً، فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ عَلَى مَا دُونَهَا إيلَاءً فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا جُعِلَ طَلَاقًا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْبِرِّ شَرْعًا بِوَصْفِ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الْجِمَاعِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَلَا يُجْعَلُ طَلَاقًا بِدُونِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ هُوَ الْيَمِينُ الَّتِي تَمْنَعُ الْجِمَاعَ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْحِنْثِ، وَبَعْدَ مُضِيِّ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَطَأَهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ، فَلَا يَكُونُ هَذَا إيلَاءً.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُدَّةَ ذُكِرَتْ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ لَا لِلْإِيلَاءِ فَنَقُولُ: ذِكْرُ الْمُدَّةِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ لَا يَكُونُ ذِكْرًا فِي الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالْإِيلَاءِ إذْ بِهِ يَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ الْمُحَقِّقُ لِلظُّلْمِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا، وَعِنْدَنَا مَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً لَا يَكُونُ مُولِيًا فِي حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْإِيلَاءُ عَلَى الْأَبَدِ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِيلَاءَ إذَا ذُكِرَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ الْأَبَدُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ ذِكْرَ الْأَبَدِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ إيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَوَقَّتَهُ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَمَنْ كَانَ إيلَاؤُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ شَرْطُ الْأَبَدِ فَيَلْزَمُهُ إثْبَاتُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ عِنْدَ تَرَبُّصِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَمَبْنِيٌّ عَلَى حُكْمِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ، فَعِنْدَنَا إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَبِينُ مِنْهُ، وَعِنْدَهُ لَا تَبِينُ بَلْ تُوقَفُ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْفَيْءِ وَالتَّطْلِيقِ، فَلَابُدَّ، وَأَنْ تَزِيدَ الْمُدَّةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِيلَاءُ فِي حَالِ الرِّضَا أَوْ الْغَضَبِ أَوْ أَرَادَ بِهِ إصْلَاحَ وَلَدِهِ فِي الرَّضَاعِ أَوْ الْإِضْرَارَ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ نَصَّ الْإِيلَاءِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ حَالٍ، وَحَالٍ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَإِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِضْرَارِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَأَمَّا مُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ فَشَهْرَانِ فَصَاعِدًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ كَمُدَّةِ إيلَاءِ الْحُرَّةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَالْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْلٍ نَذْكُرُهُ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَهُوَ أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ ضُرِبَتْ أَجَلًا لِلْبَيْنُونَةِ عِنْدَنَا فَأَشْبَهَ مُدَّةَ الْعِدَّةِ فَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَعِنْدَهُ ضُرِبَتْ لِإِظْهَارِ ظُلْمِ الزَّوْجِ بِمَنْعِ حَقِّهَا عَنْ الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ، وَهَذَا يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ فِي الْمُدَّةِ كَأَجَلِ الْعِنِّينِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنَاوَلَتْ الْحَرَائِرَ لَا الْإِمَاءَ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ عَزْمَ الطَّلَاقِ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}، وَهِيَ عِدَّةُ الْحَرَائِرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا أَوْ حُرًّا فَالْعِبْرَةُ لِرِقِّ الْمِرْأَةِ، وَحُرِّيَّتِهَا لَا لِرِقِّ الرَّجُلِ، وَحُرِّيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ طَلَاقٌ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ النِّسَاءِ.
وَلَوْ اعْتَضَّ الْعِتْقُ عَلَى الرِّقِّ بِأَنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً وَقْتَ الْإِيلَاءِ ثُمَّ أُعْتِقَتْ تَحَوَّلَتْ مُدَّتُهَا مُدَّةَ الْحَرَائِرِ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا إذَا طَلُقَتْ طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ أُعْتِقَتْ لَا تَنْقَلِبُ عِدَّتُهَا عِدَّةَ الْحَرَائِرِ، وَفِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ تَنْقَلِبُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا- لَا يَكُونُ مُولِيًا لِنُقْصَانِ الْمُدَّةِ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ شَهْرَيْنِ، وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ شَهْرَيْنِ وَشَهْرَيْنِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ شَهْرَيْنِ فَمَكَثَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ شَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ إذَا سَكَتَ يَوْمًا فَقَدْ مَضَى يَوْمٌ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَيْنِ لَيْسَا بِمُدَّةِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، فَإِذَا قَالَ: وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَقَدْ جَمَعَ الشَّهْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ إلَى الْأُولَيَيْنِ بَعْدَمَا مَضَى يَوْمٌ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِنُقْصَانِ الْمُدَّةِ، كَذَا هَذَا.
وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ سَنَةً إلَّا يَوْمًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِلْحَالِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ مُولِيًا لِلْحَالِ حَتَّى لَوْ مَضَتْ السَّنَةُ وَلَمْ يَقْرَبْهَا فِيهَا لَا تَبِينُ وَلَوْ قَرِبَهَا يَوْمًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مُنْذُ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَلَمْ يَقْرَبْهَا فِيهَا تَبِينُ لَوْ قَرِبَهَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى يَنْصَرِفُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً إلَّا يَوْمًا انْصَرَفَ الْيَوْمُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ حَتَّى صَحَّتْ الْإِجَارَةُ، كَذَا هَاهُنَا.
وَإِذَا انْصَرَفَ إلَى آخِرِ السَّنَةِ كَانَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَزِيَادَةً فَيَصِيرُ مُولِيًا؛ وَلِأَنَّهُ إذَا انْصَرَفَ إلَى آخِرِ السَّنَةِ، فَلَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ، وَهَذَا حَدُّ الْمُولِي وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمٌ مُنْكَرٌ فَتَعْيِينُ الْيَوْمِ الْآخَرِ تَغْيِيرُ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَبَقِيَ الْمُسْتَثْنَى يَوْمًا شَائِعًا فِي السَّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ، فَلَا تَكْمُلُ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَثْنَى يَوْمًا شَائِعًا فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ نَفْسَهُ عَنْ قُرْبَانِ امْرَأَتِهِ بِمَا يَصْلُحُ مَانِعًا مِنْ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ يَوْمًا لَلْقُرْبَانِ أَيَّ يَوْمٍ كَانَ فَيَقْرَبُهَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا.
وَفِي بَابِ الْإِجَارَةِ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى تَعْيِينِ الْحَقِيقَةِ لِتَصْحِيحِ الْإِجَارَةِ؛ إذْ لَا صِحَّةَ لَهَا بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُدَّةِ مَعْلُومَةً فِي الْإِجَارَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِانْصِرَافِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْيَوْمِ الْأَخِيرِ، وَهَاهُنَا لَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُدَّةِ لَا تُبْطِلُ الْيَمِينَ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ قَرِبَهَا يَوْمًا يُنْظَرْ: إنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ أَرْبَعَةٌ فَصَاعِدًا صَارَ مُولِيًا لِوُجُودِ كَمَالِ الْمُدَّةِ، وَلِوُجُودِ حَدِّ الْمُولِي، وَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُولِيًا لِنُقْصَانِ الْمُدَّةِ، وَلِانْعِدَامِ حَدِّ الْإِيلَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ سَنَةً إلَّا مَرَّةً غَيْرَ أَنَّ فِي قَوْلِهِ إلَّا يَوْمًا إذَا قَرِبَهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَصِيرُ مُولِيًا مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِجَمِيعِ هَذَا الْوَقْتِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، فَلَا يَنْتَهِي إلَّا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَفِي قَوْلِهِ إلَّا مَرَّةً يَصِيرُ مُولِيًا عَقِيبَ الْقُرْبَانِ بِلَا فَصْلٍ فَصْلٌ وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ فَرَاغِهِ مِنْ الْقُرْبَانِ مَرَّةً؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى هاهنا هُوَ الْقُرْبَانُ مَرَّةً لَا الْيَوْمَ وَالْمُسْتَثْنَى هُنَاكَ هُوَ الْيَوْمُ لَا الْمَرَّةُ؛ لِذَلِكَ افْتَرَقَا ثُمَّ مُدَّةُ أَشْهُرِ الْإِيلَاءِ تُعْتَبَرُ بِالْأَهِلَّةِ أَمْ بِالْأَيَّامِ؟ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْإِيلَاءَ إذَا وَقَعَ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصُّ رِوَايَةٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ، وَعِشْرُونَ يَوْمًا.
وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ وَالشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثَ بِالْأَهِلَّةِ، وَتُكَمَّلُ أَيَّامُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ بِالْأَيَّامِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الرَّابِعِ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالثَّانِي تَرْكُ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عَزْمَ الطَّلَاقِ شَرْطَ وُقُوعِهِ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَكَلِمَةُ إنْ لِلشَّرْطِ، وَعَزْمُ الطَّلَاقِ تَرْكُ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ وَالْكَلَامُ فِي الْفَيْءِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْفَيْءِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا هُوَ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّةِ الْفَيْءِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْفَيْءِ أَنَّهُ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْفَيْءُ عِنْدَنَا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ حَتَّى لَوْ جَامَعَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ أَوْ قَبْلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ فَيْئًا؛؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ فَصَارَ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ، فَلَا يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ إلَّا بِهِ، فَلَا يَحْصُلُ الْفَيْءُ، وَهُوَ الرُّجُوعُ عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ إلَّا بِهِ، بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ.
وَبِالْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ هُنَاكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ تَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهٍ فَلَوْ لَمْ تَثْبُتْ الرَّجْعَةُ بِهِ لَصَارَ مُرْتَكِبًا لِلْحَرَامِ فَجُعِلَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ تَحَرُّزًا عَنْ الْحَرَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ثَبَتَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْحَالِ فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ مِنْهُ فَيْئًا لَمْ يَصِرْ مُرْتَكِبًا لِلْحَرَامِ لِذَلِكَ فَافْتَرَقَا، وَالثَّانِي: بِالْقَوْلِ؛ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي صُورَةِ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّتِهِ؛ أَمَّا صُورَتُهُ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ لَهَا فِئْت إلَيْكِ أَوْ رَاجَعْتُكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صِفَةِ الْفَيْءِ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ فِئْت إلَى امْرَأَتِي، وَأَبْطَلْت الْإِيلَاءَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ شَرْطَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْفَيْءِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِدُونِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّهَادَةَ احْتِيَاطًا لِبَابِ الْفُرُوجِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَدَّعِيَ الزَّوْجُ الْفَيْءَ إلَيْهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَتُكَذِّبَهُ الْمَرْأَةُ فَيَحْتَاجَ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْفَيْءِ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ.
إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْفَيْءِ مَعَ بَقَاءِ الْمُدَّةِ وَالزَّوْجُ ادَّعَى الْفَيْءَ وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا كَانَتْ بَاقِيَةً فَالزَّوْجُ يَمْلِكُ الْفَيْءَ فِيهَا وَقَدْ ادَّعَى الْفَيْءَ فِي وَقْتٍ يَمْلِكُ إنْ شَاءَهُ فِيهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي الْفَيْءَ فِي وَقْتٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْفَيْءِ فِيهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا عَلَيْهِ لِلْمَرْأَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا.
وَأَمَّا شَرْطُ صِحَّتِهِ فَلِصِحَّةِ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ شَرَائِطُ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا الْعَجْزُ عَنْ الْجِمَاعِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ بِهِ يَنْدَفِعُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ خَلَفَ عَنْهُ وَلَا عِبْرَةَ بِالْخَالِفِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ الشَّرْطُ هُوَ الْعَجْزُ عَنْ الْجِمَاعِ حَقِيقَةً أَوْ مُطْلَقُ الْعَجْزِ إمَّا حَقِيقَةً، وَإِمَّا حُكْمًا، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْعَجْزَ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ، وَحُكْمِيٌّ؛ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَنَحْوُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا مَرَضًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْجِمَاعُ أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَجْبُوبًا أَوْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَطْعِهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَوْ تَكُونَ نَاشِزَةً مُحْتَجِبَةً فِي مَكَان لَا يَعْرِفُهُ أَوْ يَكُونَ مَحْبُوسًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَهَا، وَفَيْؤُهُ فِي هَذَا كُلِّهِ بِالْقَوْلِ.
كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ مَحْبُوسَةٌ أَوْ هُوَ مَحْبُوسٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ مَسَافَةٌ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إلَّا أَنَّ الْعَدُوَّ أَوْ السُّلْطَانَ مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ فَيْأَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْفِعْلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَفَّقَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَبْسِ بِأَنْ يُحْمَلَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَلَى أَنْ يَقْدِرَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ يَصِلَ إلَى صَاحِبِهِ فِي السِّجْنِ وَالْوَجْهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْعَدُوِّ أَوْ السُّلْطَانِ أَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ، وَعَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ.
وَأَمَّا الْحُكْمِيُّ فَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا وَقْتَ الْإِيلَاءِ، وَبَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْحَجِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْجِمَاعِ حَقِيقَةً أَنَّهُ يَنْتَقِلُ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ إلَى الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ حَقِيقَةً وَعَاجِزًا عَنْهُ حُكْمًا أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا يَصِحُّ وَلَا يَكُونُ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ وَقَالَ زُفَرُ: يَصِحُّ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَجْزَ حُكْمًا كَالْعَجْزِ حَقِيقَةً فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ كَمَا فِي الْخَلْوَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي الْمَانِعُ الْحَقِيقِيُّ وَالشَّرْعِيُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ صِحَّةِ الْخَلْوَةِ.
كَذَا هَذَا.
وَلَنَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْجِمَاعِ حَقِيقَةً فَيَصِيرُ ظَالِمًا بِالْمَنْعِ، فَلَا يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنْهَا إلَّا بِإِيفَائِهَا حَقَّهَا بِالْجِمَاعِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ لَا يَسْقُطُ لِأَجْلِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجُمْلَةِ؛ لِغِنَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَاجَةِ الْعَبْدِ وَالثَّانِي دَوَامُ الْعَجْزِ عَنْ الْجِمَاعِ إلَى أَنْ تَمْضِيَ الْمُدَّةُ حَتَّى لَوْ قَدِرَ عَلَى الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ بَطَلَ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ وَانْتَقَلَ إلَى الْفَيْءِ بِالْجِمَاعِ، حَتَّى وَلَوْ تَرَكَهَا وَلَمْ يَقْرَبْهَا فِي الْمُدَّةِ حَتَّى مَضَتْ تَبِينُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ بَدَلٌ عَنْ الْفَيْءِ بِالْجِمَاعِ، وَمَنْ قَدِرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ بَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا قَدِرَ عَلَى الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ،، وَكَذَا إذَا آلَى وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ فَإِنْ كَانَ قَدْرُ مُدَّةِ صِحَّتِهِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْجِمَاعُ فَفَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ فِي مُدَّةِ الصِّحَّةِ فَإِذَا لَمْ يُجَامِعْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَقَدْ فَرَّطَ فِي إيفَاءِ حَقِّهَا، فَلَا يُعْذَرُ بِالْمَرَضِ الْحَادِثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ فَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ لِقِصَرِهِ فَفَيْؤُهُ بِالْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْجِمَاعِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا فِي تَرْكِ الْجِمَاعِ فَكَانَ مَعْذُورًا وَلَوْ آلَى، وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَمْ يَفِئْ بِاللِّسَانِ إلَيْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَبَانَتْ ثُمَّ صَحَّ ثُمَّ مَرِضَ فَتَزَوَّجَهَا، وَهُوَ مَرِيضٌ فَفَاءَ إلَيْهَا بِاللِّسَانِ صَحَّ فَيْؤُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى لَوْ تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ لَا تَبِينُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَصِحُّ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا صَحَّ فِي الْمُدَّةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ قَدِرَ عَلَى الْجِمَاعِ حَقِيقَةً فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى جِمَاعِهَا إلَّا بِمَعْصِيَةٍ كَمَا إذَا كَانَ مُحْرِمًا فَفَاءَ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِمَعْصِيَةٍ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصِّحَّةَ إنَّمَا تَمْنَعُ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى إيفَائِهَا حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ وَلَا حَقَّ لَهَا فِي حَالَةِ الْبَيْنُونَةِ، فَلَا تُعْتَبَرُ الصِّحَّةُ مَانِعَةً مِنْهُ.
وَالثَّالِثُ قِيَامُ مِلْكِ النِّكَاحِ وَقْتَ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ فِي حَالِ مَا يَفِيءُ إلَيْهَا زَوْجَتَهُ غَيْرَ بَائِنَةٍ مِنْهُ؛ فَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً مِنْهُ فَفَاءَ بِلِسَانِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَيْئًا، وَيَبْقَى الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ بِالْقَوْلِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ إنَّمَا يَرْفَعُ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ لِحُصُولِ إيفَاءِ حَقِّهَا بِهِ وَلَا حَقَّ لَهَا حَالَةَ الْبَيْنُونَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْفَيْءُ وَصَارَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ فَيَبْقَى الْإِيلَاءُ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا، وَمَضَتْ الْمُدَّةُ تَبِينُ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْفَيْءِ بِالْفِعْلِ- وَهُوَ الْجِمَاعُ- أَنَّهُ يَصِحُّ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ، وَثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى الْإِيلَاءُ بَلْ يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ حِنْثٌ بِالْوَطْءِ فَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ، وَبَطَلَتْ وَلَمْ يُوجَدْ الْحِنْثُ هَاهُنَا، فَلَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ، فَلَا يَرْتَفِعُ الْإِيلَاءُ ثُمَّ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ عِنْدَنَا، إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ إلَّا فِي حَقِّ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ بَاقِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْحَلُّ إلَّا بِالْحِنْثِ وَالْحِنْثُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ لَيْسَ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ، فَلَا تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا فَيْءَ إلَّا بِالْجِمَاعِ، وَإِلَيْهِ مَالَ الطَّحَاوِيَّ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفَيْءَ بِالْحِنْثِ وَلَا حِنْثَ بِاللِّسَانِ، فَلَا يَحْصُلُ الْفَيْءُ بِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ هُوَ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْقُرْبَانُ، فَلَا يَحْصُلُ الْفَيْءُ إلَّا بِهِ وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْفَيْءُ عِنْدَ الْعَجْزِ بِالْقَوْلِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ مَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ وَلِأَنَّ الْفَيْءَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الرُّجُوعُ؛ يُقَالُ: فَاءَ الظِّلُّ أَيْ: رَجَعَ، وَمَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الْإِيلَاءِ هُوَ أَنَّهُ بِالْإِيلَاءِ عَزَمَ عَلَى مَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ، وَأَكَّدَ الْعَزْمَ بِالْيَمِينِ فَبِالْفَيْءِ رَجَعَ عَمَّا عَزَمَ، وَالرُّجُوعُ كَمَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لِصَيْرُورَتِهِ ظَالِمًا بِمَنْعِ حَقِّهَا وَالظُّلْمُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْجِمَاعِ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَيَكُونُ إزَالَةُ الظُّلْمِ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَيَكُونُ إزَالَةُ هَذَا الظُّلْمِ بِذِكْرِ إيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ أَيْضًا، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْجِمَاعِ يَكُونُ بِإِيذَائِهِ إيَّاهَا مَنْعَ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ لِيَكُونَ إزَالَةُ هَذَا الظُّلْمِ بِقَدْرِ الظُّلْمِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا وَقْتُ الْفَيْءِ فَالْفَيْءُ عِنْدَنَا فِي الْمُدَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْمُولِي فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ إيلَائِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَمِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِامْرَأَتِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، أَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ، أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ يَصِحُّ إيلَاؤُهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْرَبْهَا تَبِينُ مِنْهُ فِي الْمُدَّةِ وَلَوْ قَرِبَهَا فَفِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالصَّوْمِ، وَفِي غَيْرِهَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ الْمَذْكُورُ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَحْلِفُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ بِأَنْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُكِ فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ.
وَأَمَّا إسْلَامُ الْمُولِي فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِيلَاءِ؟ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ أَنَّهُ يَصِحُّ إيلَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ إذَا آلَى بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرَبِ كَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ قَرِبْتُكِ فَعَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْقُرَبِ لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ فَيُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا،، وَكَذَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ فُلَانَةُ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الظِّهَارِ عِنْدَنَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا.
وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا آلَى بِاَللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ مُولِيًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ مُولِيًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا تَنْعَقِدُ مِنْ الذِّمِّيِّ كَمَا فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ،، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ الْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ بِاَللَّهِ يَمِينٌ يَمْنَعُ الْقُرْبَانَ خَوْفًا مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالذِّمِّيُّ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الدَّعَاوَى كَالْمُسْلِمِ، وَيَتَعَلَّقُ حِلُّ الذَّبِيحَةِ بِتَسْمِيَتِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِتَسْمِيَةِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أُكِلَتْ، وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ لَمْ تُؤْكَلْ، فَيَصِحُّ إيلَاؤُهُ كَمَا يَصِحُّ إيلَاءُ الْمُسْلِمِ، وَإِذَا صَحَّ إيلَاؤُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّهِ كَمَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ، وَهُوَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَلَوْ آلَى مُسْلِمٌ أَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا وَتَزَوَّجَهَا فَهُوَ مُولٍ، وَمُظَاهِرٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَسْقُطُ عَنْهُ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْكُفْرَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ ابْتِدَاءً فَيَمْنَعُ بَقَاءَهُمَا عَلَى الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ، وَحُكْمُ الظِّهَارِ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ إلَى غَايَةِ التَّكْفِيرِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ،، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكُفْرَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ انْعِقَادَ الْإِيلَاءِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ قَدْ انْعَقَدَ لِوُجُودِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْعَارِضُ هُوَ الرِّدَّةُ.
وَأَثَرُهَا فِي زَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْيَمِينِ فَتَبْقَى الْيَمِينُ فَإِذَا عَادَ يَعُودُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَارِضٍ عَلَى أَصْلٍ يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ إذَا ارْتَفَعَ، وَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ انْعَقَدَ بِيَقِينٍ وَالْعَارِضُ، وَهُوَ الرِّدَّةُ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ وَالتَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ إذَا انْعَقَدَ بِيَقِينٍ لِاحْتِمَالِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ، وَاحْتِمَالُ الْفَائِدَةِ هاهنا ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ رَجَاءَ الْإِسْلَامِ قَائِمٌ وَالظِّهَارُ قَدْ انْعَقَدَ مُوجِبًا حُكْمَهُ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ لِصُدُورِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَبِالرِّدَّةِ زَالَتْ صِفَةُ الْحُكْمِ، وَبَقِيَ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ إذْ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، وَبَقَائِهَا فِي حَقِّهِ؛؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ وُجُوبُ الِامْتِنَاعِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ بِخِلَافِ الْقُرْبَةِ، وَلِهَذَا خُوطِبَ بِالْحُرُمَاتِ دُونَ الْقُرُبَاتِ وَالطَّاعَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.